المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 08-10-2011, 04:47 PM   #241
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 243

(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون "243")
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالأسرة المسلمة في حالة علاج الفراق في الزواج إما بالطلاق وإما بالوفاة، أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم بأتي ولا نبي يبعث. ولابد لمثل هذه الأمة أن تربى تربية تناسب مهمتها التي حملها الله إليها. ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمة السابقة ليأخذوا العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تتلى ولكن من واقع قد درس ووقع في المجتمع.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ولا أحد غيره، وواهب الحياة هو الذي يأخذها. ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الناس. وإنما هو سبحانه الذي يحيى ويميت. وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني، ولكن استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ من التمول.
ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو إسرائيل، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي أتعبت الرسل، وأتعبت الأنبياء، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من واقع ما حدث، فقال سبحانه: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت". ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا. أما عن سبب هذا الموت فلم تتعرض له الآيات، وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلاما طويلاً، فمنهم من قال: إنهم خرجوا هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا، وبعضهم قال: إنهم خرجوا فراراً من عدو قد سلط عليهم ليستأصلهم، المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت.
إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم، ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك أمر لا يهم؛ لأن القرآن لا يعطي تاريخا، فلم يقل متى كانت الوقائع ولا زمنها، ولا على يد من كان هذا، ولا يحدد أشخاص القضية، كل ذلك لا يهتم به القرآن. والذين يتعبون أنفسهم في البحث عن تفاصيل تلك الأمور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الأشياء بزمن مخصوص، ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة.
ونقول لهم: إن القرآن لو أراد ذلك لفعل، ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبينه الحق لنا، وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لأن مدلول القصة إن تحدد زمنها، فربما قيل: إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الآن لم يعد يحتملها، وربما قيل: إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها، إنما الأمكنة الأخرى لا تحتمل. وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل: إن القصص لا يمكن أن تحدث إلا على يد هذه الشخصيات؛ لأنها فلتات في الكون لا تتكرر.
إن الله حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والأشخاص وعمومية الأمكنة إنه ـ سبحانه ـ يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها مشخصة. وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف. نقول لهؤلاء: أنتم لا تثرون القصة، لأنكم عندما تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال: إنها لا تنفع إلا للزمان الذي وقعت فيه. ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم، وإن أراد أن يحدد فهو يشخص ومثال ذلك قوله تعالى:

{ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين "10" }
(سورة التحريم)


لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر فقط الأمر المهم وهو أن كلا منهما كانت زوجة لرسول كريم، ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، ولم يستطع لو عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، بل كانت كل من المرأتين تتآمر ضد زوجها ـ وهو الرسول ـ مع قومها، لذلك كان مصير كل منهما النار، والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للإنسان، فحرية العقيدة أساس واضح من أسس المنهج. وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون:

{ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين "11" }
(سورة التحريم)


لم يذكر اسمها؛ لأنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى الألوهية، ومع ذلك لم يستطع أن يقنع امرأته بأنه إله. لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلام:

{ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين "12" } (سورة التحريم)

لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها، ذلك لأن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى. فالذين يحاولون أن يقووا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم: أنتم تفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول: إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق: "ألم تر". أنت تقول لإنسان: "ألم تر" يعني ألم ير بعينيه، وبالله هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم الساعة رأوا هذه المسألة؟ لا. لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية. ونحن نعلم أن الرؤية تكون بالعين، والسماع يكون بالأذن، والتذوق يكون باللسان، والشم يكون بالأنف، واللمس يكون باليد، إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات، وفي ذلك اقرأ قوله تعالى:

{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون "78" }
(سورة النحل)


 

قديم 08-10-2011, 04:47 PM   #242
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 244

(وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم"244")
إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت. لماذا؟ لأن واهب الحياة وكاتب الأجل سميع عليم، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه. وكان الجهاد قديما عبثا ثقيلا على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة ـ حصانا أو جملا ـ ويتحمل سلاحه، كان كل مجاهد يعد عدته للحرب، فإن ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله، وأن يجهز عدته للحرب، وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا


 

قديم 08-10-2011, 04:48 PM   #243
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 245

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون "245")
ساعة تسمع "يقرض الله" فذلك أمر عظيم؛ لأنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض الله، ولكن المسألة لا تكون واضحة، لماذا؟ لأن ذلك الإنسان سيستفيد استفادة مباشرة، لكن عندما تنفق في سبيل الله فليس هناك إنسان بعينه تعطيه، وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين، وتعاملك فيها يكون مع الله. كأنك تقرض الله حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على النفس البشرية، وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس. والقرض في اللغة معناه قضم الشيء بالناب، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة، وحتى يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله: "يقرض"، إنه المقدر لصعوبتها، ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة. "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا". وما هو القرض الحسن؟ وهل إذا أقرضت عبداً من عباد الله لا يكون القرض حسنا؟
أولا إذا أقرضت عبداً من عباد الله فكأنك أقرضت الله، صحيح أنت تعطي الإنسان ما ييسر له الفرج في موقف متأزم، وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد لا تعطي إنسانا بعينه وإنما تعطي الله مباشرة، وهو سبحانه يبلغنا: أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني. كيف؟ لأن الله هو الذي استدعى كل عبد له للوجود، فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا، فإذا أعطى العبد لأخيه المحتاج فكأنه يقرض الله المتكفل برزق ذلك المحتاج. وقوله تعالى: "يقرض الله" تدلنا على أن القرض لا يضيع؛ لأن القرض شيء تخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك، وأنه سيرد ما اقترضه، لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة، إن الأصل محفوظ ومستثمر، ولذلك يقول: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، إنها أضعاف كثيرة بمقاييس الله عز وجل لا بمقاييسنا كبشر.
والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لابد أن يكون من حلال، ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا: "ليتها لم تزن ولم تتصدق". وقيل: إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله، في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها، لكن القرض تتعلق نفسك به، فكلما صبرت مرة أتتك حسنة، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجا.
والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص، لذلك فالله يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا القرض، وذلك مناسب تماما لقوله تعالى: "يقبض ويبسط" التي جاء بها في قوله تعالى: "والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون" أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال الذي تقرض منه ينقص في ظاهر الأمر ولكن الله ـ سبحانه ـ يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة وفي الآخرة يكون الجزاء جزيلا. ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: "ألم تر" تأكيدا للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي


 

قديم 08-10-2011, 04:48 PM   #244
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 246

(ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين "246")
إن الحق سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين، فماذا نرى؟ "ألم تر إلى الملأ"، ما معنى الملأ؟ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً. وأن الظرف قد شغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه. وكلمة "ملأ" تطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم. و"الملأ" من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور.
"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى" أي ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلا في عصر "يوشع" أو "حزقيل أو شمويل" أو أي واحد منهم، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام. "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصرا لهم وقالوا له: ابعث لنا ملكا. ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك. وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم؟
نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالا لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعا للحق، ولا تكون موطنا للوم في أي شيء. الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ ـ أي أشراف القوم ـ وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا" لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون.
لكنهم قالوا: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا" .. انظر إلى الدقة في قولهم: "في سبيل الله" وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله. وكان إخراجهم من ديارهم أمرا معقولا، لكن كيف تخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر:
إذا تـرحـلـت عـن قـوم وقـد قـدروا ألا تـفـارقـهم فالراحـلـون همـو
وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟ وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال تولوا" إن قوله: "كتب" لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير بـ"كُتب" ولم يأت بـ"كَتبَ"، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال. لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا". ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟ لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر:
إن الـذي جـعـل الحـقيـقة علقماً لم يـخـل مـن أهـل الحقـيـقـة جـيلاً
لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول: "إني قليل"؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى. وقد يكون عدوك كثيرا لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا". كلمة "إلا قليلا" جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى:

{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }
(من الآية 249 سورة البقرة)


أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع، ورآها غيرك، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال ملك من هي، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب.
"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين" إذن فالتولي ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال، إذن فقد ظلمت نفسك، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية. إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية. وقوله الحق: "والله عليم بالظالمين" هو إشارة على أن الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سرا، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر "الطابور الخامس" الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم. لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكا، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت رايته، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من قضايا الدين.


 

قديم 08-10-2011, 04:48 PM   #245
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 247

(وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم "247")
هم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وكان يكفي ـ إذن ـ أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك عليهم. لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام منهم في المبعوث كملك لهم. لقد قال لهم: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". والنبي القائل ذلك ينتمي إليهم، وهو منهم، وعندما طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا كانوا يعلمون أنه مأمون على ذلك. ويتجلى أدب النبوة في التلقي، فقال: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع، فقال: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". فماذا كان ردهم؟ "قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال". وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين.
إنهم يريدون الوجاهة والغنى. وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب. إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم، فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟ شيء آخر نفهمه من قولهم: "أنى يكون له الملك علينا"، إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يحزب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود، فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة التي يدور التفكير حولها، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع على واحد منهم الاختيار، وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة. لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا: "أنى يكون له الملك" أي لم يؤت الملك من قبل.
ولقد كانوا ينتمون إلى نسلين: نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامين، ونسل أخذ الملوكية وهو نسل لاوي بن يعقوب. فلما قال لهم: "إن الله بعث لكم طالوت ملكا"، بدأوا يبحثون عن صحيفة النسب الخاصة به فلم يجدوه منتميا لا لهذا ولا لذاك، ولذلك قالوا: ""أنى يكون له الملك علينا". وهذا يدلنا على أن الناس حين يريدون وضعا من الأوضاع لا يريدون الرجل المناسب للموقف، ولكن يريدون الرجل المناسب لنفوسهم، بدليل قولهم: "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه". وهل الملك يأتي غطرسة أو كبرياء؟ ومادام طالوت رجلا من غمار الناس فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع قضية كل مؤمن وهي أنك حين تريد الاختيار فإياك أن يغشك حسب أو نسب أو جاه، ولكن اختر الأصلح من أهل الخبرة لا من أهل الثقة. لقد تناسوا أن القضية التي طلبوها من نبيهم تحتاج إلى صفتين: رجل جسيم ورجل عليم، والله اختار لهم طالوت رجلا سيما وعليما معا.
وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية: "بعث لكم" حتى لا يحرج أحدا منهم في أن طالوت أفضل منه، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم: "إن الله اصطفاه عليكم" وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم. وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة والجسامة "إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟
والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكا لهم. ولذلك يقول الحق: "والله يؤتي ملكه من يشاء" وكأن الحق يقول لهم: لا تظنوا أنكم أنتم الذين ترشحون لنا الملك المناسب، يكفيكم أنكم طلبتم أن أرسل لكم ملكا فاتركوني بمقاييسي اختر الملك المناسب. ويختم الحق الآية بقوله: "والله واسع عليم" أي عنده لكل مقام مقال، ولكل موقع رجل، وهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذه المهمة. ومن يصلح لتلك، لا عن ضيق أو قلة رجال، ولكن عن سعة وعلم. لقد استقبلوا هذا الاختيار الإلهي باللجاج، واللجاج نوع من العناد ولا ينهيه إلا الأمر المشهدي المرئي الذي يلزم بالحجة، لذلك كان لابد من مجيء معجزة.


 

قديم 08-10-2011, 04:49 PM   #246
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 248

(وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين "248")
لقد أرسل الحق مع الملك طالوت آية تبرهن على أنه ملك من اختيار الله فقال لهم نبيهم: "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" أي إن العلامة الدالة على ملكه هي "أن يأتيكم التابوت" وهذا القول نستدل منه على أن التابوت كان غائبا ومفقودا، وأنه أمر معروف لديهم وهناك تلهف منهم على مجيئه. وما هو التابوت؟ إن التابوت قد ورد في القرآن في موضعين: أحدهما في الآية التي نحن بصددها الآن، والموضوع الآخر في قوله تعالى:

{إذ أوحينا إلى أمك ما يوحي "38" أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني "39"}
(سورة طه)


إذن فالتابوت نعرفه من أيام قصة موسى وهو رضيع، عندما خافت عليه أمه؛ فأوحى لها الله: "فإذا خفت عليه فألقيه في اليم" فهل هو التابوت نفسه الذي تتحدث عنه الآيات التي نحن بصددها؟ غالب الظن أنه هو؛ لأنه مادام جاء به على إطلاقه فهو التابوت المعروف، وكأن المسألة التي نجا بها موسى لها تاريخ مع موسى وفرعون ومع نبيهم ومع طالوت وهذه عملية نأخذ منها أن الآثار التي ترتبط بالأحداث الجسيمة في تاريخ العقيدة يجب أن نعني بها، ولا نقول إنها كفريات ووثنيات؛ لأن لها ارتباطا بأمر عقدي، وبمسائل تاريخية، وارتباطا بالمقدسات. انظر إلى التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وتحمله الملائكة. إن هذا دليل على أنه شيء كبير ومهم.
إذن فالآثار التي لها مساس وارتباط بأحداث العقيدة وأحداث النبوة، هذه الآثار مهمة للإيمان، وكأن القرآن يقول: اتركوها كما هي، وخذوا منها عظة وعبرة؛ لأنها تذكركم بأشياء مقدسة. لقد كان التابوت مفقودا، وذلك دليل على أن عدوا غلب على البلاد التي سكنوها، والعدو عندما يغير على بلاد يحاول أولا طمس المقدسات التي تربط البلاد بالعقيدة. فإذا كان التابوت مقدسا عندهم بهذا الشكل، كان لابد أن يأخذه الأعداء. هؤلاء الأعداء هم الذين أخرجوهم من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وإذا كانوا قد أخرجوهم من ديارهم فمن باب أولى أنهم أجبروهم على ترك التابوت.
والله سبحانه وتعالى يطمئنهم بأن آية الملك لطالوت هي مجيء التابوت الذي تتلهفون عليه، وترتبط به مقدساتكم. "أن يأتيكم التابوت في سكينة من ربكم" فكأن الاستقرار النفسي سيأتيكم مع هذا التابوت؛ لأن الإنسان حين يجد التابوت الذي نجا به نبي، وفي الأشياء التي سنعرفها فيما بعد، إن الإنسان يستروح صلته بالسماء، وهي صلة مادية تجعل النفس تستريح. وعلى سبيل المثال تأمل مشاعرك عندما يقال لك: "هذا هو المصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا عثمان". إنه مصحف مثل أي مصحف آخر، ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه سيدنا عثمان؛ إن تستريح نفسيا عندما تراه. وأيضا حين تذهب إلى دار الخلافة في تركيا، ويقال لك: "هذا هو السيف الذي كان يحارب به الإمام علي". فتنظر إلى السيف، وتجد أن وزنه وثقله يساوي عشرة سيوف، وتتعجب كيف كان يحمله سيدنا علي كرم الله وجهه وكيف كان يحارب به.
وكذلك عندما يقال لك: "هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المكحلة التي كان يكتحل بها"، لاشك أن مثل هذه المشاهد ستترك إشراقا وطمأنينة في نفسك. وعندما يراها إنسان به بعض الشكوك والمخاوف فإن العقيدة تستقر في نفسه. ومن هذا كله أقول: إن ولاة الأمر يجب ألا يعتبروا مقدسات الأشياء ضربا من الشركيات والوثنيات، بل يجب أن يولوها عناية ورعاية ويبرزوها للناس؛ لتكون مصدر سكينة وأمن نفس للناس، وعليهم أن ينصحوا الناس بألا يفتنوا بها، ولكن عليهم أن يتركوها لتذكرنا بأمر يتصل بعقيدتنا وبنبينا. وانظر إلى حديث القرآن عن التابوت. إن الحق سبحانه لم يقل: إن التابوت سيأتي كاملا، ولم يقل كذلك إنه التابوت الذي وضع فيه موسى، وإنما قال: "فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون" كأن آل موسى وهارون قد حافظوا على آثار أنبيائهم، وأيضا قوله تعالى: "تحمله الملائكة" يؤكد لنا أنه لا شك أن الأثر الذي تحمله الملائكة لابد أن يكون شيئا عظيما يوجب العناية الفائقة "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت".
ونلحظ في قوله: "أن يأتيكم التابوت" إنه سبحانه قد نسب الإتيان إلى التابوت، فهل كان من ضمن العلامة أن يأتيهم التابوت وهم جالسون ينتظرون ولأن التابوت تحمله الملائكة فلن يراهم القوم لأنهم كائنات غير مرئية، فلن يراهم أحد وإنما سيرى القوم التابوت آتياً إليهم، ولذلك أسند الحق أمر المجيء للتابوت. وهذا المشهد يخلع القلوب ويجعل أصحاب أشد القلوب قساوة يخرون سجدا ويقولون "طالوت أنت الملك، ولن نختلف عليك". ونريد الآن أن نعرف الأشياء التي يمكن لآل موسى أن يحافظوا عليها من آثار موسى عليه السلام، والآثار التي يحافظ عليها آل هارون من هارون عليه السلام.
قال بعض الناس إنها عصا موسى، وهي الأثر الذي تبقى من آل موسى، وذلك أمر معقول؛ لأنها أداة من أدوات معجزة موسى عليه السلام. ألم تكن هي المعجزة التي انقلبت حية تسعى وابتلعت بسرعة ما صنعه السحرة؟ إن مثل هذه الأداة المعجزة لا يمكن أن يهملها موسى، أو يهملها المؤمنون به بعد ما حدث منها. وليس من المعقول أن يفرط آل موسى في عصا تكلم الله فيها وقال:

{وما تلك بيمينك يا موسى "17" قال هي عصاي أتوكأ عليها }
(من الآية 17، ومن الآية 18 سورة طه)


إن هناك قصة طويلة استغرقها الحديث عن هذه العصا، فكيف يفرط فيها موسى وقومه بسهولة؟ لاشك أنهم حافظوا عليها، وقدسوها، وجعلوها من أمجادهم. ويرينا الحق سبحانه وتعالى أن هؤلاء القوم أهل لجاج وأهل جدل وأهل تلكؤ، فهم لا يؤمنون بالأمور إلا إذا كانت حسية كالتابوت الذي يأتيهم وحدهم، صحيحا تحمله الملائكة، لكنهم لا يرون الملائكة؛ وإنما رأوا التابوت يسير إليهم، "أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" وليس هناك آيات أعجب من مجيء التابوت حتى يثبت صدق النبي في أن الله قد بعث طالوت ملكا، فإن لم يؤمنوا بهذه المسألة فعليهم أن يراجعوا إيمانهم. والسياق القرآني يدل على أن الله بهتهم بالحجة، وبهتهم بالآية، وبهتهم بالقرآن، بدليل أنه حذف ما كان يجب أن يقال وهو: فقبلوا طالوت ملكا. ونظم طالوت الحرب فقام وقسم الجنود ورتبهم، وكل هذه التفاصيل لم تذكرها الآيات.


 

قديم 08-10-2011, 04:49 PM   #247
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 249

(فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "249")
الفضل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر، ومثل ذلك قوله تعالى:

{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف }
(من الآية 94 سورة يوسف)


"فصلت العير" أي غادرت مصر وخرجت منه. ونحن نستخدم كلمة "فصل" في تبويب الكتب، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها: هذا "كتاب". ونحن نستخدم كلمة "فصل" في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ. وهكذا نفهم معنى قول الحق: "فلا فصل طالوت بالجنود" أي فصلهم عن بقية غير المقاتلين، وقسمهم إلى جماعات مرتبة، وكل جماعة لها مهمة.
وكلمة "جنود" هي جمع "جند" وهي مفردة لكنها تدل على جماعة، وأصل الكلمة من "جند" وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية، ونظرا لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أطلق عليهم لفظ: جند. وبرغم أن كلمة "جند" مفرد؛ إلا أنها تدل على القوم مثل "رهط" و"طائفة" ويسمونها اسم جمع. "فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر" أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك، لقد أراد أن يختبرهم، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكا، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة. فقال لهم عن الحق: "إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم".
لقد أوضح لهم: أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة؛ أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده. وساعة تسمع كلمة "مبتليكم" فلا تفسرها على أنها مصيبة، ولكن فسرها على أنها اختبار، قد ينجح من يدخل وقد يفشل. والاختبار هنا بنهر. ومادام كان الاختبار بنهر فلابد أن لهذه الكلمة موقعا وأثرا نفسيا عندهم، لابد أنهم كانوا عطاشاً، وإلا لو لم يكونوا عطاشاً لما كان النهر ابتلاء. "إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني".
إنهم عطاش، وساعة يرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شربا ورياً، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم. "فمن شرب منه فليس مني" لماذا؟ لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله. ومن ينس أمر الله ويفضل نفسه، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله. لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه، فهو صابر قادر على نفسه، وسيكون من جند الله، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه، وهو أهل لأن يبتلى. ومع ذلك لم يقس الله في الابتلاء، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائيا. "إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده" لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة. لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها؟
إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيها الويل وسيعرضون لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة لأن يحاصرهم عدوهم، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة. كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة. فهل فعلوا ذلك؟ يأتينا الخبر من الحق "فشربوا منه إلا قليلا منهم". وهكذا تتم التصفية، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا، وهنا امتنع عن الشرب قليلا من القليل، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار، فقد يقوى واحد على نصف المشقة، ويقوى آخر على ثلث المشقة، ويقوى ثالث على ربعها. لقد بقى منهم القليل، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة؛ إنه الذي ظل على الإيمان.
وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها. "فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم: "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا، ويقول الحق: "قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي. فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين، قسم رأى جالوت وجنوده، والقسم الآخر رأوه أيضا، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية، فقسم خاف وقسم لم يخف، والذين خافوا قالوا: "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا: "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، لقد مروا بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: هي إدراك لجالوت وجنوده، والثانية: هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده، والأخيرة: هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده، لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضا وجاء فيهم قول الله: "قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".
كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا. لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟ "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر، ودليلنا على ذلك قول الحق:

{إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين "124" }
(سورة آل عمران)


هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد؟ يقول الحق:

{بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين "125" }
(سورة آل عمران)


فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر؛ لأن حنان القدرة الإلهية عليك يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فيحن عليك ويعطيك جزءا أكبر. فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات، تأتيك معونة الله، ويقول الله لملائكته: هذا يستحق أن يعان فأعينوه. ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".


 

قديم 08-10-2011, 04:49 PM   #248
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 250

(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"250")
هذه هي الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائلا: "ربنا" إنه لم يقل: يا الله، بل يقول: "ربنا"؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء، بينما مطلوب "الله" هو العبودية والتكاليف؛ لذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب "يا ربنا" أي يا من خلقتنا وتتولانا وتمدنا بالأسباب، قال المؤمنون مع طالوت: "ربنا أفرغ علينا صبرا". وعندما نتأمل كلمة "أفرغ علينا صبرا" تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام "وثبت أقدامنا" حتى يواجهوا العدو بإيمان وعند نهاية الصبر وتثبيت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين


 

قديم 09-10-2011, 03:55 PM   #249
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 251

(فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين"251")
إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجئ الحق بكلمة "هزموهم" وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما. والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفرار لغير كر ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة.
وقول الله: "فهزموهم بإذن الله" يدل على أن جنود جالوت لم يقتلوا كلهم، ولكن الذين قتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: "وقتل داود جالوت". وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله. ولأول مرة يظهر لنا اسم "داود" في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى:

{ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد "10" أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير "11"}
(سورة سبأ)


إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت، وكان "داود" أخاً لعشرة وهو أصغرهم، وقال النبي للقوم: إن من يدخل المعركة ضد جالوت لابد أن يأتي درع موسى على مقاسه، وهنا استعرض والد "داود" الدرع على جميع أبنائه، فلم يأتي على مقاس أي واحد منهم إلا على أصغرهم، وهو "داود". جاء الدرع على مقاسه، ودخل "داود" المعركة فقتل جالوت قائد المشركين، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين.
كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى:

{وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم }
(من الآية 80 سورة الأنبياء)


وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه. ولقد كان قتل جالوت هو البداية لداود. "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفصدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد.


 

قديم 09-10-2011, 03:56 PM   #250
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 252

(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين"252")
ونعرف أن "تلك" إشارة يخاطب الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى الآيات التي سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته، فقد قال الحق من قبل:

{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون "243"}
(سورة البقرة)


وساعة طلبوا أن يقاتلوا، وأن يبعث لهم ملكاً، وبعثه لهم، وبعث لهم التابوت فيه سكينة، أليست هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملاق الضخم على يد داود الصبي الصغير. أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة ـ بإقرارهم ـ حيث قالوا: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة، أليست هذه آية؟
وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الآيات التي سبقت رسالته؟ لا، ولكنها من إخبار الله له مع إقرار الجميع، وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه لا قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم، ولا أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها أناس غيره، ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا، لأذاعوا أن محمداً قد جلس مع فلان، وتعلم منه كذا وكذا. ولكن هذا لم يقله أحد؛ لأنه لم يحدث أصلا، ولذلك كان إخباره صلى الله عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو بعضنا من أسرار معجزته، إنه قد عرف الأخبار السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علما من أحد. وقد تماحك بعض المشركين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الأخبار، فنزل القول الحق يدحض هذا الافتراء:

{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين "103"}
(سورة النحل)


لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة، وزعم كاذب من ناحيتهم. لأن الذي ادعوا أنه علم الرسول كان أعجميا. ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق". إن كلمة "آيات الله" تعني الأشياء العجيبة، و"نتلوها" أي نجعل كلمة بعد كلمة، وهي من "ولي" أي جاء بعده بلا فاصل. "نتلوها عليك بالحق" والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث لا يتغير عنه، فلا يتضارب أبدا.
فهب أن حادثة وقعت أمامك، ثم سئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف عليها أبدا؛ لأنك تحكي واقعا رأيته، لكن لو كانت الحكاية كذبا؛ فستجد أن روايتك لها في المرة الثانية تتغير؛ لأنك لا تذكر ماذا قلت في المرة الأولى؛ لأنك لا تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به، وكذلك الحق لا يتغير، ولا يتضارب، ولا يتعارض. "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق" ومادام الحق سبحانه هو الذي يقولها، فسيقولها لك حقيقة، وعندئذ يعرف الآخرون أنك عرفت ما عندهم مما يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض، هنا يعرفون أنك من المرسلين، ولذلك نحن نجد في "ماكانات القرآن" التي يقول فيها تعالى: "ما كُنت"، "ما كُنت"، و"ما كنت" ومثل قوله الحق:

{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كُنت من الشاهدين "44"}
(سورة القصص)


أي ما كنت يا محمد حاضرا مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة، ولم تكن معاصرا لموسى ولا شاهداً تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق:

{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون "44"}
(سورة آل عمران)


إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الأخبار الجليلة عمن اصطفاهم الله هي من الغيب الذي أوحى الله به إليك. وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل. ومثال ذلك قوله الحق سبحانه:

{وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمةً من ربك لتنذر قوماً وما آتاهم من نذيرٍ من قبلك لعلهم يتذكرون "46" }
(سورة القصص)
أي ما كنت أيها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه وناجاه، ولكن الله أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك، ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون. ومثال ذلك قوله الحق:

{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم "52"}
(سورة الشورى)


إن القرآن هو وحي منزل من عند الله، يعرف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق، ويهدي من اختار الهدى، وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم. إن كل "ما كنت" في القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولا من عند الله إليك، وحاملا للوحي من الله هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص، رغم أنك لم تقرأ كتابا ولم تجلس إلى معلم. وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم، وكان من الواجب أن يقولوا إن الذي علمك هذا هو الله سبحانه وتعالى، وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين.


 

قديم 09-10-2011, 03:56 PM   #251
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 253

(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد "253")
إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: "تلك الرسل" و"الرسل" هي جمع لمفرد هو "رسول". والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق" هؤلاء الرسل" وقال "تلك الرسل"؟ ذلك ليدلك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد. وكما عرفنا من قبل أن الإشارة بـ"تلك" هي إشارة لأمر بعيد. فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا نقول: "ذا"، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول: "ذاك". وعندما نشير إلى مؤنث فنقول: "ت" وعندما نشير إلى خطاب مؤنث: "تيك". و"اللام" كما عرفنا هنا للبعد أو للمنزلة العالية.
إذن فقوله الحق: "تلك الرسل" هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني. والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام، وعن عيسى عليه السلام، وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل. إن أردت الترتيب القرآني هنا، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة، وإن أردت ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من علمه الرسل من الرسل السابقين، والمناسبة هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك: "وإنك لمن المرسلين"، ولما كانت "وإنك لمن المرسلين" تفيد بعضيته صلى الله عليه وسلم لكلية عامة، كأنه يقول: إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو أنهم رسل الله، أنهم أيضا متساوون في المنزلة، لا، بل كل واحد منهم له منزلته العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل. إنهم جميعا رسل من عند الله، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل.
فلماذا كان قول الله: "وإنك لمن المرسلين" يؤكد لنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة، وتقول إنهم متماثلون في الفضل. لا. إن الله قد فضل بعضهم على بعض. وما هو التفضيل؟ إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان ما "هذه محاباة"، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلا إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عددا من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول: "هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح" و"هذا فيه ميزات عن ذاك" وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل، ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.
إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما. وحينما قال الحق: "وإنك لمن المرسلين" جاء بعدها بالقول الكريم: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" وأعطانا نماذج التفضيل فقال: "منهم من كلم الله". وساعة تسمع "منهم من كلم الله" يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق: "ورفع بعضهم درجات". ثم قال: "وآتينا عيسى ابن مريم البيانات" إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال: "كلم الله" وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق "ورفع بعضهم درجات" والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام. إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله: "ورفعنا بعضهم درجات" بحق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء، ولكنك تجد أن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن محمداً صلى الله عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود.
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولكن هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة إنه هو محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونية، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى عليه السلام يبرئ الأكمة والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود.
لكن محمد صلى الله عليه وسلم حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسات التي تحدث مرة وتنتهي، إنه سبحانه قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولابد أن تكون معجزته صلى الله عليه وسلم غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن. ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته. إن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له:

{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
(من الآية 7 سورة الحشر)


فهو صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع أيضا، أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض، وتلك القوانين نوعان: نوع جاء من الله، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء، ولكن هناك نوع ثان من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلائم ما يرى، وهذا تفضيل للرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن حين يقول الله تعالى: "ورفع بعضهم درجات" فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا أكثر من التصريح بالاسم. وأضرب هنا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت أعطيت لولدك قلما عاديا، ولولدك الثاني قلما مرتفع القيمة، ولولدك الثالث ساعة، أما الولد الرابع فاشترين له هدية غالية جدا، ثم تأتي للأولاد وتقول لهم: أنا اشتريت لفلان قلما جافا، ولفلان قلما حبر، واشتريت لفلان ساعة، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة. فـ"بعضهم" هذا قد عرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون قد تعين وتحدد.


 

قديم 09-10-2011, 03:56 PM   #252
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 254

(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون"254")
ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى: "يا أيها الذين أمنوا" إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله، وليس تكليفا للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به، إنما يكلف الله من آمن به، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له: يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعا لك، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر. إذن الإيمان هو حيثية كل حكم، فأنت تفعل ذلك لماذا؟ لا تقل: لأن حكمته كذا وكذا. لا. ولكن قل: لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته.
ولو أن إنسانا قال له الطبيب: إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا، وبعد ذلك امتنع عن الخمر، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا، لم يمتنع لأن الله قال، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب. أما المؤمن فيقول: أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد رحمها، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب: إن كبدك سيضيع بسبب الخمر، فالرحمة هي ألا يجئ الداء.
إن الحق يقول: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم" أي أنا لا أطلب منكم أن تنفقوا علي، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر، وهذا الفكر رتبه من خلقه، والجوارح التي تنفعل، واليد التي تتحرك، والرجل التي تمشي خلقها الله، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله. وسنأخذ الزارع نموذجا، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها .. فأي شيء للإنسان إذن؟ ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول: "إنه لي" بل أمنحه لك أيها الإنسان، ولكن أعطني حقي فيه، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين، والحق يقول:

{ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون "57" }
(سورة الذاريات)


وإياك أن تقول: ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أن المسكنة عرض، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت. فلا تقدر أنك معطٍ دائما، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لا أن تعطي. الحق يقول لك: أعط المسكين وأنت غني؛ لأنه سبحانه سيقول للناس: أن يعطوك وأنت فقير، فقدر حكم الله ساعة يطلب منك، ليحميك ساعة أن يطلب لك، وبذلك تتوازن المسألة. ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا، حتى تمحى الضغائن من قلوبكم؛ لأن الإنسان الضعيف ـ ضعفا طبيعيا وليس ضعف التسول أو الكسل أو الاحتراف، بل ضعف عدم القدرة على العمل ـ هو مسئولية المؤمنين، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولا أن يساعدك وأنت ضعيف.
وأنت حين ترى ـ وأنت ضعيف لا تقدر ـ الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك، وذكروك بما عندهم، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير، فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبداً، ولا تحقد على معطيها، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك ـ لأنها جاءتك عن حاجة ـ تتمنى لو أن الله قدرك لتردها، فيكون المجتمع مجتمعا متكافلا متضامنا. فحين يقول الله تعالى: "أنفقوا مما رزقناكم" فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك، فهو سبحانه يقول:

{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون "245" }
(سورة البقرة)


إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق. وحتى نفهم معنى النفقة أقول: قد قلنا من قبل: إن الكلمة مأخوذة من مادة "النون والفاء والقاف"، ويقال: نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان. والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة. والثمن ما لا يستفاد به مباشرة. فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة، وكذلك كوب الماء الممتلئ، تستفيد منه مباشرة، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة. إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمناً. ولذلك يقول لنا الحق إنذارا وتحذيرا من الاعتزاز بالمال:

{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون "245" }
(سورة البقرة)


إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه؛ أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس، وأيضا لا يكون في هذا اليوم "خلة"، ومعنى "خلة هي الود الخالص، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلا بالآخر بالمحبة؛ لأن كلا منكما منفصل عن الآخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولا بأمر نفسه.
إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها. فأنت لا تملك ثمنا تشتري به، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة، إذن فهذا الباب قد سد. وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة، والشفاعة هذه مأذون فيها. إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله، ومعنى "شفيع" مأخوذة من الشفع والوتر. الوتر واحد والشفع اثنان، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان. فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب. ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة. فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تغلق في هذا اليوم العظيم. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف، فأنا لم أظلمهم. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: "والكافرون هم الظالمون". وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل ، وعن الاختلاف، وعن القتال لتثبيت منهج الحق، وعن الإنفاق، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل


 

قديم 09-10-2011, 03:56 PM   #253
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 255

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم "255")
ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق: "الله لا إله إلا هو". إن كلمة "الله" هي علم على واجب الوجود. وعندما نقول: "الله" فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود. ما معنى "واجبة الوجود"؟ إن الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن. والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه "الله" أعطانا فكرة على أن كلمة "الله" هذه يتحدى بها ـ سبحانه ـ أن يسمى بها سواه. ولو كنا جميعا مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان. ولكن هنا كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون: "الله خرافة"، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه "الله"؟
لا يفل أحد هذا؛ لأن الله تحدى بذلك، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة. وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحا لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث. إذن "الله" علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال. وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى: "لا إله إلا هو" وهنا نجد النفي ونجد الإثبات، النفي في "لا إله"، والإثبات في "إلا هو". والنفي تخلية والإثبات تحلية. خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته. و"لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله. ونعرف أن بعضنا من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناما وعبدوا الكواكب. ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت آلهة بباطل. ودليل صدق هذه القضية التي هي "لا إله إلا الله"، أي لا معبود إلا الله أن أحدا من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية. إذن فهذا الكلام هو حق وصدق.
وإن أدعى أحد غير ذلك، نقول له: إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت. إن كان هذا الكلام صحيحا فهو صادق فيه، فلا نعبد إلا هو. وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحدا غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول: "أنا الذي خلق الكون"؟ إنه أمر من اثنين، الأمر الأول: هو أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية ـ إذن ـ منتهية. والأمر الآخر: هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى، وبعد ذلك جاء واحد وقال: "أنا الإلهة وليس هناك إله إلا أنا". فأين هذه الآلهة الأخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟
إن كانوا لم يعلموا بها، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا. نحن الآلهة، وهذا الكلام كذب؟ وكما بعث الله رسلا بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولا بمعجزات. فصاحب الدعوة إذا ادعاها ولم يوجد معارض له، تثبت الدعوى إلى أن يوجد منازع. إذن كلمة "لا إله إلا الله" معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقا وصدقا فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقا فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حسا ولا حركة، ولا يتكلم، ولا نعلم عنه شيئا، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصح أن يكون إلها؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة. ولذلك ربنا سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول:

{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا "42" سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا "43" }
(سورة الإسراء)


فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة، ولكن هذا لم يحدث. فالكلمة "لا إله إلا الله" صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوة؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا هو؟ وأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ هب أننا في اجتماع، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم نجد لها صاحبا، ثم جاء واحد كان معنا وخرج، وقال: يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي. ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته هو.
إذن "لا إله إلا الله" هي قضية تمتلئ بالصدق والحق، والله هو المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة. فمعنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا، ومادامت العبادة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا، فلابد أن يكون المأمور والمنهي صالحا أن يفعل وصالحا ألا يفعل. فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح لئلا يفعل. وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له "لا تفعل"؟ إن ذلك غير ممكن.
إذن لابد أن يكون صالحا لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثا ولا طائل من ورائهما. لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، قالوا: هل هذا هو كل الإسلام، وقالوا: إنه دين يعتمد على المظاهر فقط، قلنا لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم:

{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها }
(من الآية 61 سورة هود)


"واستعمركم فيها" أي طلب منكم أن تعمروها، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سيبني عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساسا بدون مبنى، فهذه هي الأركان التي يبني عليها الإسلام، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبين ذلك ويؤكده قول الله تعالى:

{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها }
(من الآية 61 سورة هود)


ويخرج إلينا أناس يقولون: نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل. ونقول لأي منهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلا. والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوما واحدا في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد. وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟ فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهرا في السنة تصوم نهاره. وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان، ستأكل وتلبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها. ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة.
إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق، ثم إلى العجين، وإلي النار التي توقد بالمازوت، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقا، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها، وتهيئتها للزراعة، وريها، وتسميدها، وزرعها، وحصدها، وكيف درس القشر والسنابل، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك، لفصل الحبوب عن التبن، وتعبئة الحبوب، إلى غير ذلك؟
انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله، وكم من الطاقات وكم رجال للعمل، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك. مثال آخر، أنت تلبس جلبابا، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، وتقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، فليست هذه هي العبادة، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" إن كل عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون "تنبلاً" في الوجود. والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك.


 

قديم 09-10-2011, 03:57 PM   #254
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 256

(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم "256")
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه: "لا إكراه في الدين". والإكراه هو أن تحمل الغير على فعل لا يرى هو خيراً في أن يفعله. أي لا يرى الشخص المكره فيه خيراً حتى يفعله. ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم، كأن نرغم الأبناء على المذاكرة، وهذا أمر لصالح الأبناء، وكأن نجبر الأطفال المرضى على تناول الدواء. ومثل هذه الأمور ليست إكراهاً، إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لأن أحداً لا يسره أن يظل مريضاً.
إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم. ولذلك يقول الحق سبحانه: "لا إكراه في الدين". ومعنى هذه الآية أن الله لم يكره خلقه ـ وهو خالقهم ـ على دين، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصى أمره. فيقول سبحانه:

{لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً }
(من الآية 31 سورة الرعد)


لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً، أن المجيء قهراً يثبت له القدرة، ولا يثبت له المحبوبية، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب، فيقول تعالى: "لا إكراه في الدين" أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً. فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟. لا، إن الرسول جاء لينقل عن الله لا ليكره الناس، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين، وإلا لو أكرهم لما أرسل الرسل، ولذلك يقول المولى عز وجل:

{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "99"}
(سورة يونس)


إن الرسول له مهمة البلاغ عن الله؛ لأن الله لم يرد خلقه مكرهين على التدين، إذن فالمبلغ عنه لا يكره خلقه على التدين، إلا أن هنا لبساً. فهناك فرق بين القهر على الدين، والقهر على مطلوب الدين، هذا هو ما يحدث فيه الخلاف.
تقول لمسلم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: "لا إكراه في الدين"، ويدعي أنه مثقف، ويأتيك بهذه الآية ليلجمك بها، فتقول له: لا. "لا إكراه في الدين" عقدية وإيماناً، إنما إن آمنت وأعلنت أنك آمنت بالله وصرت معنا مسلما فلابد أن تعرف أنك إن كسرت حكماً من أحكام الإسلام نطلب منك أن تؤديه، أنت حر أن تؤمن أو لا تؤمن، لكن حين التزمت بالإيمان، فعليك مسئولية تنفيذ مطلوب الإيمان، وإلا حسب تصرفك أنه من تصرفات الإسلام، فإذا كنت تشرب خمراً فإنك حر؛ لأنك كافر مثلاً، لكن أتؤمن ثم تشرب خمراً!؟ لا. أنت بذلك تكسر حداً من حدود الله، وعليك العقاب.
ولأنك مادمت قد علمت كعاقل رشيد مطلوب الإسلام، فعليك أن تنفذ مطلوب الإسلام، ولذلك لم يكلف الله الإنسان قبل أن ينضج عقله بالبلوغ؛ حتى لا يقال: إن الله قد أخذ أحداً بالإيمان وألزمه به قبل أن يكتمل عقله. بل ترك التكليف حتى ينضج الإنسان ويكتمل، حتى إذا دخل إلى دائرة التكليف عرف مطلوباته، وهو حر أن يدخل إلى الإيمان أو لا يدخل، لكن إن دخل سيحاسب. إذن فلا يقل أحد عندما يسمع حكماً من أحكام الدين: "لا إكراه في الدين"؛ لأن هذه الآية نزلت بشأن العقيدة الأساسية، فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاماً عليك أن توفي بمطلوباتها. وقد أراد خصوم الإسلام أن يصعدوا هذه العملية فقالوا كذباً وافتراء: إن الإسلام انتشر بحد السيف.
ونقول لهم: لقد شاء الله أن ينشأ الإسلام ضعيفا ويضطهد السابقون إليه كل أنواع الاضطهاد، ويعذبون، ويخرجون من ديارهم ومن أموالهم ومن أهلهم، ولا يستطيعون عمل شيء. إذن ففترة الضعف التي مرت بالإسلام أولا فترة مقصودة.
ونقول لهم أيضا: من الذي قهر وأجبر أول حامل للسيف أن يحمل السيف؟! والمسلمون ضعاف ومغلبون على أمرهم، لا يقدرون على أن يحموا أنفسهم، إنكم تقعون في المتناقضات عندما تقولون: إن الإسلام نشر بالسيف. ويتحدثون عن الجزية رفضاً لها، فنقول: وما هي الجزية التي يأخذها الإسلام من غير المسلمين كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان المسلمون يأخذون الجزية من البلاد التي دخلها الفتح الإسلامي، أي أن هناك أناساً بقوا على دينهم. ومادام هناك أناس باقون على دينهم فهذا دليل على أن الإسلام لم يكره أحداً.
وقول الله: "لا إكراه في الدين" علته أن الرشد واضح والغي واضح، ومادام الأمر واضحا فلا يأتي الإكراه يأتي في وقت اللبس، وليس هناك لبس، لذلك يقول الحق: "قد تبين الرشد من الغي". ومادام الرشد بائنا من الغي فلا إكراه. لكن الله يعطيك الأدلة،وأنت أيها الإنسان بعقلك يمكنك أن تختار، كي تعرف أنك لو دخلت الدين لالتزمت، وحوسبت على دخولك في الدين، فلا تدخل إلا وأنت مؤمن واثق بأن ذلك هو الحق؛ لأنه سيترتب عليه أن تقبل أحكام الدين عليك. "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" والرشد: هو طريق النجاة، و"الغي": هو طريق الهلاك. ويقول الحق إيضاحاً للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم:

{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين "146" }
(سورة الأعراف)


إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الأرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات الله ودلائل قدرته، وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه، وإن شاهدوا طريق الضلال سلكوا فيه لأنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها. والغي ـ أيضا ـ هو ضلال الطريق، فعندما يسير إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه: "فلان قد غوى" أي فقد الاتجاه الصحيح في السير، وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك. ويوضح لنا الحق طريق الرشد بمنطوق آخر في قوله الحق:

{وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا "10" }
(سورة الجن)


 

قديم 09-10-2011, 03:57 PM   #255
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 257

(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "257")
إن الله ولي الذين آمنوا مادام "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" وكأن الحق يشرح ذلك بهذه الآية، فمادام العبد سيتصل بالعروة الوثقى ويستمسك بها، وهذه ليست لها انفصام فقد صارت ولايته لله، وكلمة "ولي" إذا سمعتها هي من "ولي" أي: جاء الشيء بعد الشيء من غير فاصل؛ هذا يليه هذا، ومادام يليه من غير فاصل فهو الأقرب له، ومادام هو الأقرب له إذن فهو أول من يفزع لينقذ، فقد يسير معي إنسان فإذا التوت قدمي أناديه؛ لأنه الأقرب مني، وهو الذي سينجدني.
فلا يوجد فاصل، ومادام لا يوجد فاصل فهو أول من تناديه، وأول من يفزع إليك بدون أن تصرخ له؛ لأن من معك لا تقل له: خذ بيدي، إنه من نفسه يأخذ بيدك بلا شعور، إذن فكلمة "الله ولي الذين آمنوا" إذا نظرت إليها وجدتها تنسجم أيضا مع "سميع وعليم"، فلا يريدك أن تناديه؛ لأن هناك من تصرخ عليه لينجدك، وهو لن تصرخ عليه؛ لأنه سميع وعليم، "الله ولي الذين آمنوا". وكلمة "ولي" أيضا منها (مولى) ومنها (وال)، "ولي الذين آمنوا أي هو الذي يتولى شئونهم وأمورهم، كما تقول: الوالي الذي تولى أمر الرعية، وكلمة "مولى" مرة تطلق على السيد، ومرة تطلق على خادمه، ولذلك يقول الشاعر:
مولاك يا مولاي طالب حاجة
أي عبدك يا سيدي طال بحاجة، فهي تستعمل في معان مترابطة؛ لأننا قلنا: "ولي" تعني القريب، فإذا كان العبد في حاجة إلى شيء فمن أول من ينصره؟ سيده، وإذا نادى السيد، فمن أول مجيب له؟ إنه خادمه، إذن فيطلق على السيد ويطلق على العبد، ويطلق على الوالي، "الله ولي الذين آمنوا". وقوله الحق: "الذين آمنوا" يعني جماعة فيها أفراد كثيرة، كأنه يريد من الذين آمنوا أن يجعلوا إيمانهم شيئا واحداً، وليسوا متعددين، أو أن ولاية الله لكل فرد على حدة تكون ولاية لجميع المؤمنين، وماداموا مؤمنين فلا تضارب في الولايات؛ لأنهم كلهم صادرون وفاعلون عن إيمان واحد، ومنهج واحد، وعن قول واحد، وعن فعل واحد، وعن حركة واحدة.
وكيف يكون "الله ولي الذين آمنوا"؟ إنه وليهم أي ناصرهم. ومحبهم ومجيبهم ومعينهم، هو وليهم بما أوضح لهم من الأدلة أو أنه لفتنا إلى الأدلة؟ وتلك هي ولاية من ولايات الله. فقبل أن نؤمن أوجد لنا الأدلة، وعندما آمنا والانا بالمعونة، وإن حاربنا خصومنا يكن معنا، وبعد ذلك تستمر الولاية إلى أن يعطينا الجزاء الأوفى في الآخرة، إذن فهو ولي في كل المراحل، بالأدلة قبل الإيمان ولي. ومع الإيمان استصحاباً يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه. وفي الآخرة هو ولينا بالمحبة والعطاء ويعطينا عطاء غير محدود، إذن فولايته لا تنتهي.
"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور" إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان؛ لأن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي، فلا يمكن أن ترى شيئا إلا إذا كان هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك، فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه لا يأتي من الأشياء أشعة فلا تراها، وعندما يأتي النور فأنت تستبين الأشياء، هذه في الأمور المحسة؛ وكذلك في مسائل القيم، "يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات".
هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين، أو "يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، أي يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من الإيمان كما يقول واحد: أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟ إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث، وأخرجه والده من الميراث. وهذا ينطبق على الذين تركوا الإيمان، وفضلوا الظلمات. والقرآن يوضح أمر الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان في مواقع أخرى، كقول سيدنا يوسف للشابين اللذين كانا معه في السجن:

{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين "36" قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون "37" }
(سورة يوسف)


فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ لا، إنه لم يدخل أساساً إلى ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله. إن هذه الملة كانت أمامه، لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم عليه السلام. وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الاختيار. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق:

{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير "70" }
(سورة النحل)
إن معنى الآية أن الله قد خلقنا جميعا، وقدر لكل منا أجلاً، فمنا من يموت صغيراً، ومنا من يبلغ أرذل العمر، فيعود إلى الضعف وتقل خلايا نشاطه فلا يعلم ما كان يعلمه. وليس معنى الآية أن الإنسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة. وعندما يقول الحق: "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات" فالحق أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت، لأن الطاغوت كما قلنا: ألوان متعددة، الشيطان طاغوت، والدجال طاغوت، والساحر طاغوت. وجاء الحق بالخبر مفرداً وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء، ووصف هؤلاء الأولياء للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات.
لقد أفرد الله الطاغوت وأورد بالجمع الأفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات. ولماذا لم يقل الله هنا: "طواغيت" بدلا من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول: "فلان عدل" أو "الرجلان عدل" أو "الرجال عدل". وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت، فالشيطان والدجال والكاهن والساحر والحاكم بغير أمر الله؛ كلهم طاغوت، لقد التزمت الآية بالإفراد والتذكير. فالطاغوت تطلق على الواحد أو الاثنين أو الجماعة، أي أن المخرجين من النور إلى الظلمات هم أولياء الطاغوت، أو من اتخذوا الطواغيت أولياء، وهم إلى النار خالدون. والدخول للنار يكون للطواغيت ويكون لأتباع الطواغيت، كما يقول الحق في كتابه:

{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون "98" }
(سورة الأنبياء)


إن أتباع الطواغيت، والطواغيت في نار جهنم. وقانا الله وإياكم عذابها. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله: "الله ولي الذين آمنوا"، فهو الولي، وهو الناصر.


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:06 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا