المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 09-10-2011, 04:02 PM   #271
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 273

(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم "273")
ساعة أن نسمع "جاراً ومجروراً" قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً. ما هو الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وإذا سألنا: ما معنى "أحصروا" فإننا نجد أن هناك "حصر" وهناك "أحصر" وكلامهما فيه المنع، إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه.
فالذي مرض مثلاً وحصر على الضرب في الأرض، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ لا، ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً، إذن فيئول الأمر من الأمرين إلى المنع، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير، فهم أحصروا في سبيل الله. حصروا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة، أو حصروا أنفسهم على الجهاد، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون. وهؤلاء هم أهل الصفة "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض" وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله، هذا هو الجائز وذاك من الجائز.
وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري المسجد، وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر، فينزل بعض التمر فيأكل، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه، وهذا هو ما قال الله فيه: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه".
وإذا نظرنا إلى قول الحق: "لا يستطيعون ضرباً في الأرض" و"الضرب" هو فعل من جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ الأخر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق:

{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"15"}
(سورة الملك)


إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله الناتج منها.
وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في الأرض "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: "تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا" والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد فيهم خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق عليهم، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: "لا يسألون الناس إلحافا" فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن الإلحاح والإلحاف فيه، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أما كان هذا دليلا على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم، لكنه قال: "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" إذن فليس هناك سؤال، لا سؤال على إطلاقه، ومن باب أولى لا إلحاف في السؤال؛ بدليل أن الحق يقول: "تعرفهم بسيماهم"، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال، وأما كلمة "الإلحاف" فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها أسلوب الإعجازي، ما هو؟
"إن "السيما" ـ كما قلنا ـ هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً؛ لأن حاله تدل على الحاجة، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال، فإذا ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها.
وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل، لأنك لو عرفت بـ:السيما" فأنت ذكي، أنت فطن، أنا لو لم تعرف بـ"السيما" وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك، إذن فعندك تقصير في فطنة النظر، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من عليه هم الحاجة ومن عنده خواطر العوز، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية.
ولنا العبرة في تلك الواقعة، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته: ما يبكيك؟. قال: إن فلاناً طرق بابي. قالت: وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟. قال: لأني تركته إلى أن يسألني. إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته، وأن يتعرف على أخبار إخوانه . ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من إخوانه، ما الذي أقعده: أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان.
"وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار.


 

قديم 09-10-2011, 04:03 PM   #272
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 274

(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "274")
إن المسألة في الإنفاق تقتضي أمرين: إما أن تنفق سراً، وإما أن تنفق علانية. والزمن هو الليل والنهار، فحصر الله الزمان والحال في أمرين: الليل والنهار فإياك أن تحجز عطية تريد أن تعطيها وتقول: "بالنهار أفعل أو في الليل أفعل؛ لأنه أفضل" وتتعلل بما يعطيك الفسحة في تأخير العطاء، إن الحق يريد أن تتعدى النفقة منك إلى الفقير ليلاً أو نهاراً، ومسألة الليلية والنهارية في الزمن، ومسألة السرية والعلنية في الكيفية لا مدخل لها في إخلاص النية في العطاء.
"الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم" أقالت الآية: الذين ينفقون أموالهم بالليل أو النهار؟ لا، لقد طلب من كل منا أن يكون إنفاقه ليلاً ونهاراً وقال: "سرا وعلانية" فأنفق أنت ليلاً، وأنفق أنت نهارا، وأنفق أنت سراً، وأنفق أنت علانية، فلا تحدد الإنفاق لا بليل ولا بنهار، لا بزمن ولا بكيفية ولا بحال. إن الحق سبحانه استوعب زمن الإنفاق ليلاً ونهارا، واستوعب أيضاً الكيفية التي يكون عليها الإنفاق سراً وعلانية ليشيع الإنفاق في كل زمن بكل هيئة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى عن هؤلاء: "فلهم أجرهم عند ربهم" وهذا القول يدل على عموم من يتأتى منه الإنفاق ليلاً أو نهاراً، سراً أو علانية.
وإن كان بعض القوم قد قال: إنها قيلت في مناسبة خاصة، وهي أن الإمام عليا كرم الله وجهه ورضى عنه كانت عنده أربعة دراهم، فتصدق بواحد نهاراً، وتصدق بواحد ليلا، وتصدق بواحد سراً، وتصدق بواحد علانية، فنزلت الآية في هذا الموقف، إلا أن قول الله: "فلهم" يدل على عموم الموضوع لا على خصوص السبب، فكأن الجزاء الذي رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع على كل من يتأتى منه هذا العمل.
وقول الله: "فلهم أجرهم عند ربهم" هنا نجد أن كلمة "أجر" تعطينا لمحة في موقف المؤمن من أداءات الإنفاق كلها؛ لأن الأجر لا يكون إلا عن عمل فيه ثمن لشيء، وفي أجر لعمل. فالذي تستأجره لا يقدم لك شيئا إلا مجهودا، هذا المجهود قد ينشأ عنه مثمن، أي شيء له ثمن، فقول الله "فلهم أجرهم عند ربهم" يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن عمل فالله يطلب منه أن ينفق منه.
إن الله لا يعطيه ثمن ما أنفق، وإنما يعطيه الله أجر العمل، لماذا؟ لأن المؤمن الذي يضرب في الأرض يخطط بفكره، والفكر مخلوق لله، وينفذ التخطيط الذي خططه بفكره بوساطة طاقاته وأجهزته؛ وطاقاته وأجهزته مخلوقة لله، ويتفاعل مع المادة التي يعمل فيها، وكلها مخلوقة لله، فأي شيء يملكه الإنسان في هذا كله؟ لا الفكر الذي يخطط، ولا الطاقة التي تفعل، ولا المادة التي تنفعل؛ فكلها لله. إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛ لأنك تعمل فكرا مخلوقا لله، بطاقة مخلوقة لله، في مادة مخلوقة لله، فإن نتج منها شيء أراد الله أن يأخذه منك لأخيك العاجز الفقير فإنه يعطيك أجر عملك لا ثمن عملك. لكن المساوي لك في الخلق هو الإنسان إن أخذ منك حصيلة عملك فهو يعطيك ثمن ما أخذ منك، فهي من المخلوق المساوي "ثمن"، وهي من الخالق الأعلى أجر؛ لأنك لا تملك شيئا في كل ذلك.
وبعد ذلك يقول الحق: "و لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" والخوف هو الحذر من شيء يأتي، فمن الخائف؟ من المخوف؟ ومن المخوف عليه؟ "ولا خوف عليهم" ممن؟
يجوز أن يكون "ولا خوف عليهم" من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من أن يرسب، فالنفس واحدة خائفة ومخوف عليها، إنها خائفة الآن ومخوف عليها بعد الآن. فالتلميذ عندما يخاف أن يرسب، لا يقال: إن الخائف هو عين المخوف؛ لأن هذا في حاله، وهذا في حاله. أو "لا خوف عليهم" من غيرهم، فمن الجائز أن يكون حول كثير من الأغنياء أناس حمقى حين يرون أيدي هؤلاء مبسوطة بالخير للناس فيغمرونهم ليمسكوا مخافة أن يفتقروا كأن يقولوا لهم: "استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم". لكن أهل الخير لا يستمعون لهؤلاء الحمقى. إذن فـ"لا خوف عليهم" لا من أنفسهم، ولا من الحمقى حولهم. ويتابع الحق: "ولا هم يحزنون" أي لا خوف عليهم الآن، ولا حزن عندهم حين يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها الله سبحانه وتعالى لهم بل إنهم سيفرحون.
بعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى قضية من أخطر قضايا العصر، وهذه القضية كان ولابد أن يتعرض لها القرآن؛ لأنه يتكلم عن النفقة وعن الإنفاق ولا شك أن ذلك يقتضي منفقا ومنفقا عليه؛ لأنه عاجز، فهب أن الناس شحوا، ولم ينفقوا، فماذا يكون موقف العاجز الذي لا يجد؟ إن موقفه لا يتعدى أمرين: إما أن يذهب فيقترض، وإن لم يقبل أحد أن يقرضه فهو يأخذ بالربا والزيادة وإلا فكيف يعيش؟
إذن فالآيات التي نحن بصددها تعرضت للهيكل الاقتصادي في أمة إسلامية جوادة، أو أمة إسلامية بخيلة شحيحة، لماذا؟
لأن الذي خلق الخلق قد صنع حسابا دقيقا لذلك الخلق، بحيث لو أحصيت ما يجب على الواجدين من زكاة، وأحصيت ما يحتاج إليه من لا يقدر لأن به عجزا طبيعيا عن العمل، لوجدت العاجزين يحتاجون لمثل ما يفيض عن القادرين بلا زيادة أو نقصان، وإلا كان هناك خطأ والعياذ بالله في حساب الخالق، ولا يمكن أن يتأتى ذلك أبداً.
وحين ننظر إلى المجتمعات في تكوينها نجد أن إنساناً غنيا في مكان قد نبا به مكانه، واختار أن يقيم في مكان آخر، فيعجب الناس لماذا ترك ذلك المكان وهو في يسر ورخاء وغنى؟ ربما لو كان فقيراً لقلنا طلبا للسعة، فلماذا خرج من هذا المكان وهو واجد، وهو على هذا الحال من اليسر؟ إنهم لم يفطنوا إلى أن الله الذي خلق الخلق يدير كونه بتسخير وتوجيه الخواطر التي تخطر في أذهان الناس، فتجد مكانه قد نبا به، وامتلأت نفسه بالقلق، واختار أن يذهب إلى مكان آخر.ولو أن عندنا أجهزة إحصائية دقيقة وحسبنا المحتاجين في البيئة التي انتقل منها لوجدنا قدرا من المال زائد على حاجة الذين يعيشون في هذه البيئة؛ فوجهه الله إلى مكان آخر يحتاج إلى مثل هذا الكم منه. وهكذا تجد التبادل منظما. فإن رأيت إنسانا محتاجا أو إنسانا يريد أن يرابي فاعلم أن هناك تقصيراً في حق الله المعلوم ولا أقول في الحق غير المعلوم. أي أن الغني بخل بما يجب عليه إنفاقه للمحتاج.


 

قديم 09-10-2011, 04:03 PM   #273
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 275

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "275")
وانظروا إلى كلمة "يأكلون"، هل كل حاجات الحياة أكل؟ لا، فحاجات الحياة كثيرة، الأكل بعضها، ولكن الأكل أهم شيء فيها؛ لأنه وسيلة استبقاء النفس. و"الربا" هو الأمر الزائد، ومادام هو الأمر الزائد يعني هو لا يحتاج أن يأكل، فهذا تقريع له. إن الحق يريد أن يبشع هذا الأمر فيقول: لهم سمة. هذه السمة قال العلماء أهي في الآخرة يتميزون بها في المحشر، كما يقول الحق:

{يعرف المجرمون بسيماهم }
(من الآية 41 سورة الرحمن)


فهؤلاء غير المصلين لهم علامة مميزة، وهؤلاء غير المزكين لهم علامة أخرى مميزة بحيث إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم، وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة فكأنهم حين يقومون يوم القيامة يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه، أو أن ذلك أمر حاصل لهم في الدنيا، ولنبحث هذا الأمر:
"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس". نريد أن نعرف كلمة "التخبط" وكلمة "الشيطان" وكلمة "المس". "التخبط هو الضرب على غير استواء وهدى، أنت تقول: فلان يتخبط، أي أن حركته غير رتيبة، غير منطقية، حركة ليس لها ضابط، ذلك هو التخبط. و"الشيطان" جنس من خلق الله؛ لأن الله قال لنا: إنه خلق الإنس والجن، والجن منهم شياطين، وجن مطلق، والشيطان هو عاصي الجن. ونحن لم نر الشيطان، ولكننا علمنا به بوساطة إعلام الحق الذي آمنا به فقال: أنا لي خلقا مستتر، ولذلك سميته الجن، من الاستتار ومنه المجنون أي المستور عقله، والعاصي من هذا الخلق اسمه "شيطان".
إذن فإيماننا به لا عن حس، ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به. وحين نجد شيئاً اسمه الإيمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير محس؛ لأن المحس لا يقال لك: آمن به؛ لأنه مشهود لك، فأنا لا أقول: أنا أؤمن بأن المصباح منير الآن، أنا لا أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد الآن، لا أقول ذلك لأن هذا واقع مشهود ومحس. إذن فالأمر الإيماني يتعلق بالغيب، مثل الإيمان بوجود الملائكة. فإذا ما كنا قد آمنا بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان، ولكنه حين يعطينا صورة للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له، كما أن رءوسنا نحن هي التي تميزنا يتكلم سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه:

{إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم "64" طلعها كأنه رؤوس الشياطين "65"}
(سورة الصافات)


وشجرة الزقوم في الآخرة في النار، إذن فنحن لا نراها، ورءوس الشياطين لا نراها، فكيف يشبه الله ما لم نره بما لم نره، يشبه شيئا مجهولاً بشيء مجهول؟ نقول: نعم، وذلك أمر مقصود للإعجاز القرآني؛ لأن للشيطان صورة متخيلة بشعة، بدليل أنك لو طلبت من رسامي العالم في فن الكاريكاتير، وقلت لهم: ارسموا لنا صورة الشيطان، ولم تعطهم ملامح صورة محددة، فكل منهم يرسم وفق تخيله كياناً غاية في القبح: فهذا يصوره بالقبح من ناحية، وذلك يصوره بالقبح من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد رسم مع رسم.
إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها. وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي الجائزة لأجملهم صورة أم لأقبحهم صورة؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحا. إذن فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة، ولو جاء على صورة واحدة من القبح لاختلف الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحا عندك ولا يكون قبحا عن آخر، ولكن حين يطلق الله أخيلة الناس في تصور القبح، يكون القبح مائلا وواضحا في عمل كل إنسان فتكون الصورة اكمل وأوفى فالأكمل والأوفى أن يكون القبح شائعا فيها جميعا.
ويقول الحق: "الذي يتخبطه الشيطان من المس" الشيطان قلنا: إنه العاصي من الجن، وقلنا: إن ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيرا أن الشياطين لهم التصاق واتصال بكثير من الإنس:

{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا "6" }
(سورة الجن)


و"لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" فكأن الشيطان قد مس التكوين الإنساني مساً أفسد استقامة ملكاته، فالتكوين الإنساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض؛ فكل حركة لها استقامة، فإذا ما مسه الشيطان فسد تآزر الملكات، فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة وغير منسجمة مع بعضها البعض، فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية. وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا؟. إن أردنا في الآخرة ميزة، فساعة ترى واحداً مصروعا فاعرف أنه من أصحاب الربا، هذا في الآخرة، وفي الدنيا تجد أيضاً أن له حركة غير منطقية، هستيرية، كيف؟
انظر إلى العالم الآن، لقد خلق الله العالم على هيئة من التكامل. فهذا إنسان يتمتع بإمكانات ومواهب، وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى، حتى يحتاج صاحب هذه الإمكانات إلى صاحب تلك الإمكانات فيكتمل الكون، ولو أن كل إنسان كان وحده متكررة لاستغنى الكل عن الكل. ولو أن الأفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض. لكن المواهب تختلف؛ لأنك إن أجدت فنا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنونا أخرى أنت محتاج إليها، فإن احتاجوا إليك فيما أجدت، فقد احتجت إليهم فيما أجادوا، وهكذا يتكامل العالم. وكذلك خلق الله الكون: مناطق حارة، ومناطق باردة، ومناطق بها معادن، ومناطق بها زراعة؛ حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل، ويضطر العالم إلى أن يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة "الرحمن"

{والأرض وضعها للأنام "10" }
(سورة الرحمن)


 

قديم 09-10-2011, 04:04 PM   #274
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 276

(يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم "276")
وكلمة "يمحق" من "محق" أي ضاع حالا بعد حال، أي لم يضع فجأة، ولكن تسلل في الضياع بدون شعور، ومنه "المحاق" أي الذهاب للهلال. "ويمحق الله الربا" أي يجعله زاهيا أمام صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من حيث لا يشعر. ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك. فكم من أناس رابوا، ورأيناهم، وعرفناهم، وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهم. "يمحق الربا ويربي الصدقات" ويقول في آية أخرى:

{وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله}
(من الآية 39 سورة الروم)


فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون الله بذلك .. ما هو المقابل؟

{وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون }
(من الآية 39 سورة الروم)


و"المضعفون" هم الذين يجعلون الشيء أضعافاً مضاعفة. وعندما يقول الحق: "يمحق الله الربا" فلا تستهن بنسبة الفعل لله؛ إن نسبة الفعل لفاعله يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل، فإذا قيل لك: فلان الضعيف يصفعك، أو فلان الملاكم يصفعك، فلابد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها، فإذا كان الله هو الذي قال: "يمحق الله". أيوجد محق فوق هذا؟ لا، لا يمكن. وأيضا حين يقول الله: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" في القرآن الذي يتلى وهو معجز؛ ومحفوظ ومتحدي بحفظه، فهذه قضية مصونة "يمحق الله الربا ويربي الصدقات"؛ لأن الذي قالها هو الله في كتاب الله المحفوظ، الذي يتلى متعبداً به، أي أن القضية على ألسنة الجماهير كلها، وفي قلوب المؤمنين كلها، أيقول الله قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟ لا، لا يمكن. فالإنسان لا يحفظ إلا المستند الذي يؤيده!! أنا لا أحفظ إلا "الكمبيالة" التي تخصني! فمادام هو حافظه وهو القائل:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "9" }
(سورة الحجر)


فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا، وهذه القضايا هو الذي تعهد بحفظها، ولا يتعهد بحفظها إلا لتكون حجة على صدقه في قولها. فالشيء الذي لا يكون فيه حجة لا نحافظ عليه. وهو سبحانه القائل:

{وإن جندنا لهم الغالبون "173" }
(سورة الصافات)


إن هذه قضية قرآنية تعهد الله بحفظها، فلابد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها، فإذا كان واقع الحياة لا يؤيدها، ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن ـ وحاشانا أن نكذب القرآن ـ الذي قاله الحق الذي لا إله سواه ليدير كونا من ورائه. "يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم". ولماذا قال الحق: "كفار" ولم يقل: "كافر"، ولماذا قال: "أثيم" وليس مجرد "آثم"؟ لأنه يريد أن يرد الحكم على الله ومادام يريد أن يرد الحكم على الله، فقد كفر كفرين اثنين: كفر لأنه لم يعترف بهذه، وكفر لأنه رد الحكم على الله، وهو "أثيم"، ليس مجرد "آثم"، وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية التي نحن بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية، إن لم تكن كما أرادها الله فسيتزلزل أركان المجتمع كله.
وبعد أن شر لنا الحق مرارة المبالغة في "كفار" وفي "أثيم" يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك حلاوة هذا المقابل، ومثال ذلك ما يقول الشاعر:
فالـوجه مـثل الصـبح مـبـيض والشـعر مـثل اللـيل مسـود
ضـدان لمـا اسـتـجـمـعا حسنا والضـد يظـهر حسـنه الضد
فكأن الله بعد أن تكلم عن الكفار والأثيم يرجعنا لحلاوة الإيمان


 

قديم 09-10-2011, 04:04 PM   #275
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 277

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "277")
وقلنا: إن كلمة "أجر" تقتضي أنه لا يوجد مخلوق يملك سلعة، إنما كلنا مستأجرون، لماذا؟ لأننا نشغل المخ المخلوق لله، بالطاقة المخلوقة لله، في المادة المخلوقة لله، فماذا تملك أنت أيها الإنسان إلا عملك، ومادمت لا تملك إلا عملك فلك أجر "لهم أجرهم عند ربهم". وكلمة "عند ربهم" لها ملحظ؛ فعندما يكون لك الأجر عند المساوي لك قد يأكلك، أما أجرك عند رب تولى هو تربيتك، فلن يضيع أبداً. ويتابع الحق: "ولا خوف عليهم" لا من أنفسهم على أنفسهم، ولا من أحبابهم عليهم، "ولا هم يحزنون"؛ لأن أي شيء فاتهم من الخير سيجدونه محضرا أمامهم.


 

قديم 09-10-2011, 04:04 PM   #276
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 278

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين "278")
وحين يقول الحق: "يا أيها الذين آمنوا" فنحن نعرف أن النداء بالإيمان حيثية كل تكليف بعده، وساعة ينادي الحق ويقول: "يا أيها الذين آمنوا" أي يا من آمنتم بي إلها قادراً حكيماً، عزيزاً عنكم غالباً على أمري، لا تضرني معصيتكم، ولا تنفعني طاعتكم، فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله قادر حكيم فاسمعوا مني ما أحبه لكم من الأحكام.
إذن فكل "يا أيها الذين آمنوا" في القرآن هي حيثية كل حكم يأتي بعدها، وأنت تفعل ما يأمرك به الله، وإن سألك أحد: وقال لك: لماذا فعلت هذا الأمر؟ فقل له فعلته لأني مؤمن، والذي أمرني به هو الذي آمنت بحكمته وقدرته. وأنت لا تدخل في متاهة علل الأحكام، لأنك آمنت بأن الله إله حكيم قادر، أنزل لك تلك التكاليف، وإياك أن تدخل في متاهة علة الأحكام، لماذا؟ لأن هناك أشياء قد تغيب علتها عنك، أكنت تؤجلها إلى أن تعرف العلة؟.
أكنا نؤجل تحريم لحم الخنزير إلى أن يثبت حالياً بالتحليل أنه ضار؟ لا، إذا كان قد ثبت حاليا بالتحليل أنه ضار فنحن نزداد ثقة في كل حكم كلفنا الله به، ولم نهتد إلى علته، والحق يقول: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" ومن عجائب كلمة "اتقوا" أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة، إنما هي ملتقية "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" ولم يقل هنا: اتقوا النار كما قال في آية أخرى: "اتقوا النار". إذن فكيف يقول: "اتقوا الله" ويقول: "اتقوا النار"؟ لأن معنى "اتقوا": أي اجعلوا وقاية بينكم وبين ربكم.
كيف نجعل وقاية بيننا وبين ربنا مع أن المطلوب منا إيمانياً أن نلتحم بمنهج الله لنكون دائما في معية الله؟ نقول: الله سبحانه وتعالى له صفات جلال كالقهار، والمنتقم، والجبار، وذي الطول وشديد العقاب؛ فهو يطلب من عبده المؤمن أن يجعل بينه وبين صفات جلاله وقاية، فالنار جند من جنود صفات الجلال، وحين يقول سبحانه: "اتقوا الله" يعني: اجعلوا وقاية بينكم وبين صفات الجلال التي من جنودها النار. إذن فـ"اتقوا الله" مثل "اتقوا النار" أي اجعلوا وقاية بينكم وبين النار.
ويتابع الحق: "وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين"، و"ذروا" أي اتركوا، ودعوا، وتناسوا، واطلبوا الخير من الله فيما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين حقاً بالله. كأن الله أراد أن يجعلها تصفية فاصلة، يولد من بعدها المؤمن طاهرا نقيا. إنه أمر من الحق: دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لأن الذي قبضتموه أمره "فله ما سلف" والذي لم تقبضوه اتركوه: "اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين" فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل التحريم، والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك، تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك، ولا تقل إن حياتي الاقتصادية مترتبة عليه، فترتيب الحياة الاقتصادية لم ينشأ بالاتفاق على هذا الربا، ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه.


 

قديم 09-10-2011, 04:04 PM   #277
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 279

(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون "279")
في هذه الآية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس. لقد جاء نظام ليحمي طائفة من ظلم طائفة، ولم يأتي هذا النظام إلا بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة الفقراء المستضعفين. وحسب هؤلاء المستضعفين الذين استغلوا من المرابين أن ينصفهم القرآن وأن ينهي قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لأنهم بنوا حياتهم على ذلك.
و"فأذنوا بحرب" كلمة (الألف والذال والنون) من "الأذن" وكل المادة مشتقة من "الأذن" و"الأذُن" هي أصل في الإعلام؛ لأن الإنسان ليس مفروضاً أنه قارئ أولا، إنه لا يكون قارئاً إلا إذا سمع، إذن فلا يمكن أن ينشأ إعلام إلا بالسماع والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن أدوات العلم للإنسان قال:

{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون "78" }
(سورة النحل)


ولذلك عندما جاء علم وظائف الأعضاء ليبحث ذلك وجدوها طبق الأصل كما قال الله عنها. فالوليد الصغير حين يولد إن جاء إصبع إنسان عند عينيه فلا يهتز له رمش؛ لأن عينه لم تؤد مهمتها بعد، ولكن إن تصرخ بجانب أذنه فإنه ينفعل. وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان الوليد هي أذنه، وهي أيضا الأداة التي تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان مستيقظا كان أو نائماً. إن العين تغمض في النوم فلا ترى، لكن الأذن مستعدة طوال الوقت لأن تسمع؛ لأنها آلة الاستدعاء. إذن فمادة "الأذان" و"الأذن" كلها جاءت من مهمة السمع، وقال الله سبحانه وتعالى:

{وأذنت لربها حقت "5" }
(سورة الانشقاق)


ما معنى أذنت؟. أنت حين تسمع من مساو لك، فقد تنفذ وقد لا تنفذ، لكن حين تسمعه من إله قادر فلا مناص لك إلا أن تنفذ، فكأن الله يقول: إن الأرض تنشق حين تسمع أمري بالانشقاق. فبمجرد أن تسمع الأرض أمر الحق فإنها تفعل، وحق لها أن تفعل ذلك؛ إنها أذنت لأمر الله، أي خضعت؛ لأن القائل لها هو الله. إذن كل المادة هنا جاءت من "الأذن". ولذلك فالله يقول لمن لا يفعل ما أمر به الله في الربا؛ "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله". أما حرب الله فلا نقول فيها إلا قول الله:

{وما يعلم جنود ربك إلا هو }
(من الآية 31 سورة المدثر)


ولا يستطيع أحد أن يحتاط لها. وأما حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الأمر الظاهر. كأن الله سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده التي لا يعلمها إلا هو، وحرب رسول الله جنودها هم المؤمنون برسوله، وعليهم أن يكونوا حربا على كل ظاهرة من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهروا حياتهم من دنس الربا. وهكذا وضع الله نهاية لأسلوب التعامل، حتى يتطهر المال من ذلك الربا، فإذا قال الحق: "فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" فمعنى هذا أنه سبحانه يبين لنا بهذا القول أنه لا حق للمرابين في ضعف ولا ضعفين، ولا في أضعاف مضاعفة. وحينئذ "لا تظلمون" من رابيتم، بأن تأخذوا منهم زائدا عن رأس المال.
ولكن ما موقع "ولا تظلمون"، ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم الضعيف الذي ظلم لهم سابقا، ويأخذ منهم بعض رأس المال بدعوى أنهم طالما استغلوه فأخذوا منه قدراً زائدا على رأس المال. إن المشروع يريد أن يمنع الظالم السابق فينهي ظلمه، وأن يسعف المظلوم اللاحق فيعطيه حقه، وهو سبحانه لا يريد أن يوجه ظلما ليستغل به من ظلم فيظلم الذي ظلمه أولا، بل سبحانه يشاء بهذا الحكم أن ينهي هذا النوع من الظلم على إطلاقه، وأن يجعل الجميع على قدر سواء في الانتفاع بمزايا الحكم.
وكثيرا من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي ظلمت، فلا تكتفي بأن تكفها عن الظلم، ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه، وذلك هو الإجحاف في المجتمع، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لأن الله الذي أنصفك أيها المظلوم من ظالمك، فمنع ظلمه لك، هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال: "فله ما سلف" وبهذا القول انتهت القضية. ويستأنف سبحانه الأمر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك أيها المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك. والمجتمعات حين تسير على هذا النظام "لا تظلمون ولا تظلمون" إنما تسير على نمط معتدل لا على ظلم موجه. فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا، ثم نأتي بقوم لنجعلهم يظلمون، لا .. إن الجميع على قدم المساواة من الآن.
وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة، فبذلك يظل النظام قائما، طائفة ظلمت، وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة سابقا، نقول لهم: ذلك ظلم موجه، ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه، فالذي ظلم سابقا منعناه عن ظلمه، والمغلوب سابقا أنصفناه، وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير المجتمع مسيرة عادلة تحكمه قضية إيمانية. إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وبعد ذلك يجئ القرآن ليفتح باب جديدا من الأمل أمام المظلومين. وليضع حدا للذين كانوا ظالمين أولا، وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال، فحنن قلوبهم على هؤلاء. أي ليست ضربة لازب أن تأخذوا رأس المال الآن، ولكن عليكم أن تنظروا وتمهلوا المدين إن كان معسراً، وإن تساميتم في النضج الإيماني اليقيني وارتضيتم الله بديلا لكم عن كل عوض يفوتكم، فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن رءوس أموالكم التي حكم الله لكم بها لتترفعوا بها وتهبوها لمن لا يقدر.


 

قديم 09-10-2011, 04:05 PM   #278
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 280

(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون"280")
و"وإن كان ذو عسرة" حكم بأن للدائن رأس المال، ولكن هب أن المدين ذو عسرة، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية، لقد درسوها صناعة، ولكنها عزت عليهم ملكة؛ لأن اللغة ليست صناعة فقط، اللغة طبع، واللغة ملكة، اللغة وجدان، يقولون: إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته. فمثلا جاءوا بهذه الآية: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون".
قال بعض المستشرقين: نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر "كان" في قوله: "وإن كان ذو عسرة"، صحيح لا نجد خبر "كان"، ولكن الملكة العربية ليست عنده؛ لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن "كان" تحتاج إلى اسم وإلى خبر، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة، كان يجب أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر، وتكتفي بالمرفوع، وهذه تحتاج إلى شرح بسيط.
إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن، وكلمة "كان" إن سمعتها دلت على وجود وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها، كان مجتهدا؟ كان كسولا؟ مثلا فهي تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة، ومعنى ذلك أن (كان) دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه إلا إذا قيد، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى، ويظهر، فلابد أن تأتيها بخبر، كأن تقول: كان زيد مجتهدا، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد. إذن فـ(كان) هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص، فإذا لم يكن الأمر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون (كان) تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول: عاد الغائب فكان الفرح أي وجد، أو أشرقت الشمس فكان النور، والشاعر يقول:
وكـانت وليـس الصـبح فيـها بأبيـض
وأضـحت وليـس اللـيـل فيـها بأسـود
فقوله "وإن كان ذو عسرة" أي فإن وجد ذو عسرة .. أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة على السداد، "فنظرة" من الدائن "إلى ميسرة" أي إلى أن يتيسر، ويكون رأس المال في هذه الحالة "قرضا حسنا"، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثوابا.
ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن الصدقة حين تعطيها فقد قطعت أمل نفسك منها، ولا تشغل بها، وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة، لكن القرض حين تعطيه فقلبك يكون متعلقا به، فكلما يكون التعلق به شديدا، ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت تأخذ ثوابا. لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض معذور بحق؛ لأن فيه فرقاً بين معذور بحق، ومعذور بباطل، المعذور بحق هو الذي يحاول جاهدا أن يسدد دينه، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك، أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم.
ولذلك جرب نفسك، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم يسدد، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن يسدد، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك. وهؤلاء لا يطول بها الدين طويلا؛ لأن الرسول حكم في هذه القضية حكما، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
فمادام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن الله ييسر له سبيل الأداء، ومن أخذها يريد إتلافها، فالله لا ييسر له أن يسدد؛ لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث، فقد مات رجل عليه دين، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مدين؛ قال لأصحابه: صلوا على أخيكم.
إذن فهو لم يصل، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا، لماذا لم يصل؟ لأنه قال قضية سابقة: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه"، مادام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع أصحابه من الصلاة عليه. والرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول: "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
ومعنى "أنظر" أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه، فلا يحبسه في دينه، فلا يطارده، وإن تسامى في اليقين الإيماني، يقول له: "اذهب، الله يعوض علي وعليك" وتنتهي المسألة، ولذلك يقول الحق: "وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" والثمرة هي حسن الجزاء من الله. فإما أن تنظر وتؤخر، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين، وأنت حر في أن تفعل ما تشاء. فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية.
ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء، وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة". وتكلم طويلا عن النفقة. والنفقة تشمل ما يكون مفوضا عليك من زكاة، وما تتطوع به أنت. والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقا للفقير، ولكنه حق غير معلوم، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه:

{آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين "16" كانوا قليلا من الليل ما يهجعون "17" }
(سورة الذاريات)


أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلا من الليل؟ لا، إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر، هذا ما يطلبه الإسلام. لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله.


 

قديم 09-10-2011, 04:05 PM   #279
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 281

(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "281")
ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى الله تقتضي أن تقوم بالأفعال التي تقينا صفات الجلال في الله، وأوضحنا أن الله قال: "اتقوا النار" أي أن نفعل ما يجعل بيننا وبين النار وقاية، فالنار من متعلقات صفات الجلال. وهاهو ذا الحق سبحانه هنا يقول: "اتقوا يوما"، فهل نتقي اليوم، أو نتقي ما ينشأ في اليوم؟ إن اليوم ظرف زمان، والأزمان لا تخاف بذاتها، ولكن يخاف الإنسان مما يقع في الزمن.
لكن إذا كان شيء في الزمن مخيفاً، إذن فالخوف ينصب على اليوم كله، لأنه يوم هول؛ كل شيء فيه مفزع ومخوف، وقانا الله وإياكم ما فيه من هول، وانظر إلى الدقة القرآنية المتناهية في قوله: "ترجعون فيه إلى الله". إن الرجوع في هذا اليوم لا يكون بطواعية العباد ولكن بإرادة الله. وسبحانه حين يتكلم عن المؤمنين الذين يعملون الصالح من الأعمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم إلى الله يوم القيامة:

{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين "45" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون "46"}
(سورة البقرة)


ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يشتاق إلى العودة إلى الله؛ لأنه يرغب أن ينال الفوز. أما غير المؤمنين فيقول عنهم الحق:

{يوم يدعون إلى نار جهنم دعا "13" }
(سورة الطور)


إن رجوع غير المؤمنين يكون رجوعاً قسرياً لا مرغوباً فيه. والحق يقول عن هذا اليوم: "ثم توفى كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون".


 

قديم 09-10-2011, 04:05 PM   #280
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 282

(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم "282")
إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها الله بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" وهذا الاستهلال كما نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الاستهلال من حكم، يكون الإيمان هو حيثية ذلك الحكم، فمادمت آمنت بالله فأنت تطبق ما كلفك به؛ لأن الله لم يكلف كافراً، فالإنسان ـ كما قلنا سابقاً ـ حر في أن يقبل على الإيمان بالله أو لا يقبل.
فإن أقبل الإنسان بالإيمان فليستقبل كل حكم ن الله بالتزام. ونضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ إن الإنسان حين يكون مريضاً، هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو لا يذهب، ولكن حين يذهب الإنسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالإنسان لا يسأل الطبيب وهو مخلوق مثله: لماذا كتبت هذه العقاقير؟. إن الطبيب يمكن أن يرد: إنك كنت حرا في أن تأتي إلى أو لا تأتي، لكن مادمت قد جئت إلى فاسمع الكلام ونفذه. والطبيب لا يشرح التفاعلات والمعادلات لا، إن الطبيب يشخص المرض، ويكتب الدواء. فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق الأعلى بالإيمان؟
إننا نفذ أوامره سبحانه، والله لا يأمر المؤمن إلا عن حكمة، وقد تتجلى للمؤمن بعد ذلك آثار الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بالله. يقول الحق: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم إلى أجل مسمى فاكتبوه" وعندما نتأمل قول الحق: "تداينتم" نجد فيها "دين"، وهناك "دين"، ومن معنى الدين الجزاء، ومن معنى الدين منهج السماء، وأما الدين فهو الاقتراض إلى موعد يسدد فيه. هكذا نجد ثلاثة معان واضحة: الدين: وهو يوم الجزاء، والدين وهو المنهج السماوي والدين: هو المال المقترض.
والله يريد من قوله: "تداينتم بدين" أن يزيل اللبس في معنيين، ويبقى معنى واحداً وهو الاقتراض فقال: "بدين" فالتفاعل هنا في مسألة الدين لا في الجزاء ولا في المنهج، والحق يحدد الدين بأجل مسمى. وقد أراد الله بكلمة "مسمى" مزيداً من التحديد، فهناك فرق بين أجل لزمن، وبين أجل لحدث يحدث، فإذا قلت: الأجل عندي مقدم الحجيج. فهذا حدث في زمن، ومقدم الحجيج لا يضمنه أحد، فقد تتأخر الطائرة، أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في الحجر الصحي.
أما إذا قلت: الأجل عندي شهران أو ثلاثة أشهر فهذا يعني أن الأجل هو الزمن نفسه، لذلك لا يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لأنه من الجائز ألا يحدث ذلك الشيء في هذا الزمن. إن التداين بدين إلى أجل مسمى يقتضي تحديد الزمن، والحق يوضح لنا: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" وكلمة "فاكتبوه" هي رفع لحرج الأحباء من الأحباء. إنه تشريع سماوي، فلا تأخذ أحد الأريحية، فيقول لصاحبه: "نحن أصحاب"، إنه تشريع سماوي يقول لك: اكتب الدين، ولا تقل: "نحن أصدقاء" فقد يموت واحد منكما فإن لم تكتب الدين حرجاً فماذا يفعل الأبناء، أو الأرامل، أو الورثة؟.
إذن فإلزام الحق بكتابة الدين هو تنفيذ لأمر من الله يحقق رفع الحرج بين الأحباء. ويظن كثير من الناس أن الله يريد بالكتابة حماية الدائن. لا، إن المقصود بذلك والمهم هو حماية المدين، لأن المدين إن علم أن الدين عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي دينه، أما إذا كان الدين غير موثق فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الدين. وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة واحدة، ثم يضمن المجتمع الغني على المجتمع الفقير فلا يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك الإنسان عن السداد ذريعة لذلك، ويقع هذا الإنسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف، لأنه ضيق باب القرض الحسن.
إن الله يريد أن يسير دولاب الحياة الاقتصادية عند من لا يملك، لأن من يملك يستطيع أن يسير حياته، أما من لا يملك فهو المحتاج. ولذلك فهناك مثل في الريف المصري يقول: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. إنه يقترض ويسدد، لذلك يثق فيه كل الناس، ويرونه أميناً ويرونه مجداً، ويرونه مخلصاً، ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفى، فكل المال يصبح ماله. إذن فالله ـ سبحانه ـ بكتابة الدين يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لأن الواجد في غير حاجة إلى القرض. لذلك جاء الأمر من الحق سبحانه: "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه". ومن الذي يكتب الدين؟.
انظر الدقة: لا أنت أيها الدائن الذي تكتب، ولا أنت أيها المدين، ولكن لابد أن يأتي كاتب غير الاثنين، فلا مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين "وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله". وفي ذلك إيضاح بأن الإنسان الذي يعرف الكتابة إن طلب منه أن يكتب ديناً ألا يمتنع عن ذلك، لماذا؟ لأن الآية ـ آية الدين ـ قد نزلت وكانت الكتابة، فكان هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة.
ولكن إن لم يطلب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الدين فماذا يفعل؟. إن الحق يأمره بأن يتطوع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح "فليكتب"؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل. هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق، أو هو غير قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة، إنه يندب نفسه للعمل، فلا مجال للتجربة. والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال:

{تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون "47" ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون "48"}
(سورة يوسف)


 

قديم 09-10-2011, 04:06 PM   #281
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 283

(وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم "283")
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك: "فرهان مقبوضة". إذن فلم يترك الله مسألة الدين حتى في السفر فلم يشرع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرع أيضا للسفر "فرهان مقبوضة" وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: "فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته" إنه الطموح الإيماني، لم يسد الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الدين والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال: "فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته".
وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي "الدين"، والمسألة الثانية هي "الرهان المقبوضة" وهي مقابل الدين. فواحد مأمون على الرهن في يده. والآخر مأمون على الدين. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن، ومن بيده الدين ومعنى ذلك أن يؤدي من معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر دينه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟. أنضمن الظروف؟. نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك: إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك.
ومعنى "أمانة" أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة، أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك:
ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل. والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق ـ سبحانه ـ يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول ـ جل شأنه ـ:

{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً "72" }
(سورة الأحزاب)


إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمل الأمانة وكأنها قالت: إنا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل.
وهنا نذكر الإنسان: إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم. وهو جهول لأنه قدر وقت التحمل، ولم يقدر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها. إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلا أنه عرضة للأغيار، لذلك قال الحق سبحانه: "ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله" فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط، ولكنك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضاً، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
ويقول الحق سبحانه: "ولا تكتموا الشهادة" وهذه الكلمة "ولا تكتموا" إنما هي أداء معبر، لأن كلمة "شهادة" تعني الشيء الذي شهدته، فمادمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً.
لكن الكذاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، ومادام الأمر مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكتبه بالكتم؛ لأن كلمة "الكتم" تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: "ولا تكتموا الشهادة" فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع. لذلك يأتي الأمر من الحق؛ "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه". وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟. إن الشاعر يقول:
إن الكـلام لفـي الفـؤاد وإنـما
جعـل اللسـأن على الفؤاد دليلاً
وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنك تذكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة. وعندما يقول الحق: "فإنه آثم قلبه" إن كل الجوارح تخضع للقلب: "والله بما تعملون عليم" أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في المواطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة.


 

قديم 09-10-2011, 04:06 PM   #282
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 284

(لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"284")
استهلت الآية بتقديم "لله" على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: "لله ما في السماوات وما في الأرض" ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب.
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: "لله ما في السماوات وما في الأرض" وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عرضاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب. وكلمة "لله" تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى الله، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم.
نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار، ومادامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا، وأن يتكاملوا، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا، والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده ـ والعياذ بالله ـ لا، إن الله يبلغنا: أنا لي ما في السماوات وما في الأرض، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس. ولذلك نقول للذين يصلون إلى المرتبة العالية في الغنى، أو الجاه، أو أي مجال، لهؤلاء نقول: احذر حين تتم لك النعمة، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنى وعافية وأولاداً، أنت من الأغيار، ومادامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك من الأغيار، فإن النعمة تتغير إلى الأقل. فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فلابد له أن ينزل عن هذه القمة، ولذا يقول الشاعر:
إذا تـم شـيء بـدا نقـصـه تـرقـب زوالاً إذا قـيـل تـم
والتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربةي التي دخلت على الخليفة وقالت له: أتم الله عليك نعمته. وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا، وأعلنوا سرورهم، لكن الخليفة قال لهم: والله ما فهمتم ما تقول، إنها تقول: أتم الله عليك نعمته، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق. وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة.
والشاعر يقول:
نفـسي التي تمـلك الأشـياء ذاهبة
فكـيف آسـى على شيء لها ذهـبا
إن النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟ والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي: أن الكون كله لله، والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفي على الله، والحق سبحانه لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا. إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه .. فسبحانه يقول:

{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا "13" اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا "14"}
(سورة الإسراء)


والحساب معناه أن للإنسان رصيدا، وعليه أيضا رصيد. والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا (له وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول:

{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون "8" ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون "9" }
(سورة الأعراف)


إن حساب الحق دقيق عادل، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة، فصاروا من أصحاب النار.
إذن نحن أمام نوعين من البشر، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب، وهؤلاء الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب. فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم. استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف، الذين ينالون المغفرة من الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا. ولو لم يجئ أمر أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد: لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم، وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم. لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده، لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق، لذلك يطمئننا الحق سبحانه فيقول:

{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين "70" }
(سورة الأعراف)


 

قديم 09-10-2011, 04:06 PM   #283
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 285

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"285")
عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله عليه وسلم: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه". وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة "والمؤمنون". وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين "كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله. إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان أيضاً من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في "آمن" بين الرسول والمؤمنين. وبعد ذلك يجمعهما الله ـ الرسول والمؤمنين ـ في إيمان واحد، وهذا أمر طبيعي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بالله أولاً، وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنا بالله وبه ثم امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا، وهذا ما يوضحه القول الحق: "كل آمن بالله".
إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بالله أن يؤمن بأنه رسول الله، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول: أشهد أني رسول الله .. إنه يقولها بفرحة.
ومثال ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى قابل "أي أطلب نه أن يمهلني إلى عام ثان" فيأبى فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول (اليهودي) أبا القاسم، لا أنظره فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر فأخبرته، فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر، جذ واقض فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته، وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله.
والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو:

{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم "18" }
(سورة آل عمران)


إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أيضا أنه رسول الله، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني، ولذلك يقول الحق عن ذلك: "كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله". والحق يأتي بـ"كل" ـ بالتنوين ـ أي كل من الرسول والمؤمنين. ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان: "كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". ونحن نعرف أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيباً؛ فلا يوجد إيمان بمحس أبداً. فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان؛ لأنها مشهودة. وعناصر الإيمان في هذه الآية هي:
إيمان بالله وهو غيب. وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان بالكتب والرسل. وقد يقول قائل: هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر، والكتب مشهودة. ولمثل هذا القائل نقول: لا، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون.
وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟. ونقول: إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور، وفيه الأحكام التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها. إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛ لأن أقضية الحياة تختلف، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو، ولذلك يأتي القول الحكيم: "لا نفرق بين أحد من رسله" فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد، وما تختلف من ناحية الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر.
وبعد ذلك يقول الحق؛ "وقالوا سمعنا وأطعنا" إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً في كل أمر يتعلق بحركة الكون. فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون: إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج. وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين.
لهؤلاء نقول: أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة، وإنما جاء ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية، لكن الدين الإسلامي جاء خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم، نجد القول الحكيم:

{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون "9" }
(سورة الجمعة)


إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى، فهو لم يأخذهم من فراغ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات. وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه؟ يقول لهم:

{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون "10" }
(سورة الجمعة)


إذن فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة، تماما كما كان النداء إلى السعي لذكر الله. وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة، إذن "سمعنا وأطعنا" أي سمعنا كل المنهج، ولكن نحن حين نسمع المنهج، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟. ولأن أحداً لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق: "غفرانك ربنا وإليك المصير" فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك، وأنت الإله الحق، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرة حتى نلقاك


 

قديم 09-10-2011, 04:07 PM   #284
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 286

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين "286")
"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" إنه سبحانه لم يكلفكم إلا ما هو في الوسع. لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدرة عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. إذن "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" أي أن الحق لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، كل الحق كل مسلم بالصلاة خمسة فروض كل يوم، وتملأ أوقاتها بالصلاة وكان من الممكن أن تكون عشرة، بدليل أن هناك أناساً تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً، ألا يوجد من يصوم ثلاثة أشهر؟ ومثل هذا في الزكاة؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله، ولا يقتصر على ما يجب عليه من زكاة.
إذن فهذا في الوسع، ومن الممكن أن تزيد، إذن فالأشياء ثلاثة: شيء لا يدخل في القدرة فلا تكليف به، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع آخر "فمن تطوع خيراً فهو خير له" مادمت تتطوع من جنس ما فرض.
إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة. فسبحانه يقول: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" ويأتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول: "ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، وهو القائل: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" إذن ـ سبحانه ـ يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه. فقد روي أن الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون: "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" قال سبحانه: قد فعلت.
وعندما قالوا: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال سبحانه: قد فعلت. ولم يكلفنا سبحانه إلا بما في الوسع، وهو القدر المشترك عند كل المؤمنين. وهناك أناس تكون همتهم أوسع من همة غيرهم، ومن تتسع همته فإنه يدخل بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض المطلوبة منه فقط وعندما يطرأ على الإنسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فإن الله يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعة: أنت تخرج عن حياتك الرتيبة، وتذهب إلى أماكن ليس لك بها مستقر، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان، ولك أن تقصر الصلاة.
والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه ـ جل شأنه ـ يخفف حكم التكليف ويمنح الرخص عند ضيق الوسع، ومثال ذلك قوله الحق:

{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين }
(من الآية 66 سورة الأنفال)


كانت النسبة في القتال قبل هذه الآية هي واحداً لعشرة، وخففها الحق وجعلها واحداً إلى اثنين لأن هناك ضعفا، وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن الوسع. وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف: إنها فوق وسعهم ولهؤلاء نقول: لا. لا تحدد أنت الوسع، ثم تقيس التكليف عليه، بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه كلفك بما في الوسع، وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".
و"لها" تفيد الملكية والاختصاص وهي ما تفيد وتكسب النفس ثوابا، و"عليها" تفيد الوزر، ونلاحظ أن كل "لها" جاءت مع "كسبت"، وكل "عليها" جاءت مع "اكتسبت" إلا في آية واحدة يقول فيها الحق:

{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "81" }
(سورة البقرة)


وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن "كسب" تعني أن هناك فرقاً في المعالجة الفعلية الحدثية بينها وبين كلمة "اكتسبت"، لأن "اكتسب" فيها "افتعل" أي تكلف، وقام بفعل أخذ منه علاجاً، أما "كسب" فهو أمر طبيعي إذن فـ"كسب" غير "اكتسب" وكل أفعال الخير تأتي كبساً لا اكتساباً. مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته، ويرى جمالها، فهل هو يفتعل شيئاً، أو أن ذلك أمر طبيعي؟ إنه أمر طبيعي، ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى أحد النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو لا؟ لماذا؟ لأنه ارتكب عملاً مفتعلاً.
مثال آخر، إنسان يأكل من ماله، أو من مال أبيه، إنه يأكل كأمر طبيعي، أما من يدخل بستاناً ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل، ويريد أن يستر نفسه، فصاحب الشر يفتعل، أما صاحب الخير فإن أفعاله سهلة لا افتعال فيها .. فالشر هو الذي يحتاج إلى افتعال.
والمصيبة الكبرى ألا يحتاج الشر إلى افتعال؛ لأن صاحبه يصير إلى بلادة الحس الإيماني، وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لأنه تعود عليها كثيراً، ويقول الحق: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته" إن الخطيئة تحيط به من كل ناحية، ولم يعد هناك منفذ، وهو لا يفتعل حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص مثلاً في بداية عمله يخاف ويترقب، لكن عندما تصبح اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات السرقة ويصير حسه متبلداً.


 

قديم 10-10-2011, 12:47 PM   #285
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 1

(الم "1")
وهذه السورة التي نحن بصددها ـ سورة آل عمران ـ كان من السياق أن تأتي بعد سورة البقرة؛ لأن سورة البقرة جاءت لتخدمنا في قضية الوجود الأول، فتكلمت عن خلق آدم، وتكلمت عن خلافته في الأرض، وتكلمت عن تعليمه الأسماء، ثم تكلمت عن بعض مواكب الرسل لذلك الإنسان الذي استخلف في الأرض. وتعرضت لقضايا تعلقت بأحداث، هذه الأحداث ارتبطت بأزمنة مخصوصة. والقرآن قد جاء بها، ثم جاء مترتباً على الصورة النهائية. ناسب أن تأتي بعد سورة البقرة سورة آل عمران؛ لأنها تكلمت عن نوع جديد من الخلق، لم يأت على نمط الخلق الأول، وإن جاء من الخلق الأول؛ لأنها جاءت لتكلمنا عن خلق عيسى. وخلق عيسى جاء بغير الناموس الذي خلق به آدم. فكما أن آدم خلق بلا أب وبلا أم، كان المنطق أن يأتي بخلق آخر وجد من دون أب.
لقد استهل الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة بأسماء ثلاثة من حروف المعجم وهي: "ألف ـ لأم ـ ميم" وتلك القضية تعرضنا لها طويلاً عند استهلال سورة البقرة. وبينا الحكمة في ورود بعض الحروف، وعرفنا أن للحروف "مسمى" وله "اسم". "المسمى" هو الذي ننطق به، و"الاسم" هو الذي يعتبر عنواناً على هذا المسمى. فأنت حين تقرأ مثلاً، تقول: قرأ، فعندما تنطق حرف "ق" تنطقه حرفاً متصلاً ببقية الحروف، وهذا النطق اسمه "المسمى". ولكن اسم ذلك المسمى "قاف". إذن فلكل حرف اسم، ومسمى. حين نتكلم جميعاً نتكلم بالمسمى، وسواء منا الأمي أو المتعلم، فكل واحد ينطق المسمى "ق.ر.أ" ولكن لا يعرف اسم "قاف" إلا من تعلم؛ لأنه قيل له هذه اسمها "قاف". فذلك هو الاسم.
إذن فالتعليم يعطينا أسماء المسميات، واللفظ الذي يلفظ به الأمي والمتعلم هو المسميات، ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً، لم يجلس إلى معلم ولم يتعلم، فمن الذي لقنه أسماء الحروف التي لا يعرفها إلا من تعلم؟ هذه الحروف لقنت على صور مختلفة، فتنطق بالمسمى مرة وتنطق مرة أخرى بأسماء قلنا: إننا حين نقرأ في أول سورة الفيل "ألم تر" هي (الألف واللام والميم) ونقرأها كثلاثة حروف تكون تساؤلاً: "ألم تر"، ولم تقرأ أسماء حروفها، وإنما قرأتها بمسميات مرة أخرى ألم؟ لاشك أنها توقيف من الله، وهي حقاً توقيف من الله، هذه تقرأ ألم وهذه تقرأ ألف، لام، ميم.
إن الحق يدلنا على أن هذا القرآن ليس من صنعة البشر، وإلا فصنعة البشر لم تأت قبل نزول القرآن لتنطق بأسماء الحروف، اللهم إلا بعض أسماء قالوا فيها: إنها أداة مثل "هاء التنبيه" أي لتنبيه السامع. لماذا؟ لأن المتكلم حر في أن يتكلم وهو الذي يحدد وقت كلامه ولكن السامع يفاجأ. إذن فالكلام من المتكلم يحدده المتكلم، يتكلم متى شاء. ولكن السامع لا يسمع متى شاء، ولكنه يسمع بعد أن يتكلم المتكلم، لكن السامع ليس عنده اختيار، فكانوا يريدون لبعض الحروف أن يخرجوا بها إلى السامع كلون من ألوان الانجذاب إلى المتكلم، فقبل أن يجئ بالكلام الذي يريده يأتي بهاء التنبيه. كأن المتكلم يقول: تنبه لي فأنا أريد أن أتكلم حتى لا يفوت منك بعض الكلمات التي أنطق بها. وبعضها يسمونه "أداة استفتاح" مثل القول: ألا هبي بصحنك فأصبحينا: لأنه ربما نطق ببعض الكلمات في شغل من السامع عن المتكلم، فتفوته الفائدة.
إذن فكل الألفاظ التي تأتي بأسماء حروف أو بأسماء يراد بها التنبيه، إنما هي تهيئة للذهن. وما الذي يمنعنا أن يكون أيضا ذلك من باب تهيئة السامع إلى ضرورة حضور الذهن؟ ومما يدل على أن لهذه الحروف التوفيقية مواقع في النفس البشرية، أن الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواه لم يستدركوا عليه شيئا وهم أهل فصاحة وأهل لغة. هل سمعنا أن واحداً منهم قال: انظروا إلى محمد كيف يأتي بألفاظ وكلمات لا مدلول لها ولا معنى، ثم يدعي أنه أفصح العرب؟!
هل قال واحد منهم ذلك؟ لم يقل، وقبلوها ولم يستدركوا، ولم يقولوا: "ما هذه" "ألف، لام، ميم" التي جاء بها محمد؟ مما يدل على أنها أخذت من أسماعهم موقعاً كما أرادها الله، بدليل أنهم لم يستدركوا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يجعلوها من النقد الذي وجه إلى رسول الله، وقلنا في ذلك: إنه بعض من أسرار هذه الحروف. ويريد الله حين يؤكد معنى من المعاني ألا يمسه مرة واحدة، فقد جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من النبوات، ومن خطاب السماء، والمعنى الذي يريد الله أن يوضحه ويؤكده يردده كثيراً حتى يستقر في ذهن المتلقي. وعلى هذا النمط جاء قول الحق سبحانه في أول سورة آل عمران


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:11 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا