الموضوع: حدائق المعروف
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-05-2012, 09:17 AM   #3
واثقة بالله
عضومجلس إدارة في نفساني


الصورة الرمزية واثقة بالله
واثقة بالله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 26107
 تاريخ التسجيل :  10 2008
 أخر زيارة : 18-06-2013 (07:29 PM)
 المشاركات : 9,896 [ + ]
 التقييم :  183
لوني المفضل : Cornflowerblue


الحديقة الثالثة
الإنفاق والصدقة في سبيل الله




أيها الحبيب : وعود ربانية ، وقروض مضاعفة ، وأجور كريمة ، وجنان أكلها دائم وظلها ، لمن تكرّم بالصدقة السخية ، طيبة بها نفسه ، سعيدة بها روحه ، تتراءى له آيات الوعد الكريم : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } 11 الحديد .
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } 274 البقرة .
الصدقة نبع ثر يجرف مسيله كل أدران الحياة وعراقيلها ، والنفقة في وجوه المعروف بلسم الشفاء من عظيم الأدواء ، والعطاء في السر بركة للمال وَعَدَ بها رب الأرض والسماء ؛ { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } 39 سبأ .
صدقتك ـ أيها المحسن الكريم ـ بذرة بذرها أكرم من وطأ الثرى عليه الصلاة والسلام ، ( فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ) رواه البخاري .
لنقترب جميعًا إلى زهرة من زهور هذه الحديقة لنقرأ على ورقاتها هذه القصة : ففي غرفة ذات أسرة بيضاء كان يرقد على السرير الأوسط رجل في غيبوبة تامة ، لا يعي ما حوله من أجهزة مراقبة التنفس والنبض وأنابيب المحاليل الطبية .
وفي كل يوم منذ أكثر من عام ودون انقطاع كانت تزور ذلك الرجل زوجته ومعها صبي لهما في الرابعة عشر من عمره ، ينظران إليه في حنان وشفقة ويغيران ملابسه ويتفقدان أحواله ويسألان الأطباء عنه ، ولا جديد في الأمر ، الحالة كما هي ، لا تقدم ولا تأخر في صحته ، غيبوبة تامة ، وأمل مفقود من شفائه إلا من الله تعالى ، غير أن هذه المرأة الصبور والصبي اليافع كانا لا يتركانه حتى يرفعا أكف الضراعة إلى الله سبحانه ، فيدعوا له بالشفاء والعافية ، ولسان حالهما يقول :

أنت المنادَى به في كل حادثة *** وأنت ملجأ من ضاقت به الحيلُ
أنت الغياثُ لمن سُدّت مذاهبُه *** أنت الدليل لمن ضلّت به السبلُ
ويغادران المستشفى ليعودا مرة أخرى للزيارة في نفس اليوم ، وهكذا كل يوم بلا انقطاع أو سآمة أو ملل ، قلوب اجتمعت على الحب ، وتآلفت على الصدق ، وأزهرت في الشدائد أجمل ورود الصبر والحنان والرأفة .
ويظل المرضى وهيئة التمريض والأطباء في استغراب تام من زيارة المرأة والصبي لهذا الرجل شبه الميّت ، مع أنه لا جديد في حياة المريض ، فيا لله العجب : ما هذا الإصرار العجيب على تكرار الزيارة مرتين في اليوم ، مع أن المريض المسجى لا يعي أي شيء حوله ، صارحها الأطباء وأعوانهم بعدم جدوى زيارتها له ، وشفقًا عليها وعلى ابنها دعوها للزيارة مرة في الأسبوع ، وكانت المرأة الشفوق لا ترد إلا بكلمة : الله المستعان .. الله المستعان .. .
وذات يوم .. وقبل زيارة الزوجة والصبي في وقت قصير ، حدث أمر غريب ، وحادث مثير ، إنه الرجل المصاب يتحرك في سريره ، يتقلّب من جنب إلى جنب ، وما هي إلا لحظات وإذا بالرجل يفتح عينيه ، ويبعد جهاز الأكسجين عن نفسه ، ويعتدل في جلسته ، ثم ينادي الممرضة وسط ذهول الحضور ، وطلب منها إبعاد الأجهزة الطبية المساعدة ، فرفضت واستدعت الطبيب الذي كان في حالة ذهول تام ، وأجرى فحوصات سريعة له ، فوجد الرجل في منتهى الصحة والعافية ، وطلب إبعاد الأجهزة وتنظيف مكانها في جسده .
وكان موعد الزيارة المعهودة من تلك الزوجة المخلصة قد حان وقته ، فدخلت المرأة والصبي على حبيبهما ، فبأي وصف تريدني ـ يا رعاك الله ـ أن أصف تلك اللحظات الحنونة ، وبأي الكلمات تريدني أن أصوغها لك .. إنها نظرات تعانق نظرات ، ودموع تمتزج بدموع ، وابتسامات حائرات على الشفاه ، أخرست المشاعرُ الألسنة إلا بالحمد والثناء لله الكريم ، المنعم ، المتفضل ، المجيب ، الذي أتم نعمة العافية على زوجها .
لم تنته القصة بعد يا أهل المعروف ، فما زال في الحكاية سر ، فإن الطبيب لم يحتمل الصبر حتى يكتشفه ، فتوجه للزوجة بسؤالها قائلاً : هل توقعت أن تجديه يومًا ما بهذه الحالة ؟ فقالت : نعم والله ، كنت أتوقع أن أدخل عليه يومًا وأجده جالسًا بانتظارنا .
فقال لها : إن هناك شيئًا ما حصل ، ليس للمستشفى أو الأطباء دور فيه ، فبالله عليك أخبريني ، لماذا تأتين يوميًا مرتين ، وماذا تفعلين ؟ قالت : بما أنك سألتني بالله ، فأقول لك : كنت أزور زوجي الزيارة الأولى للاطمئنان عليه والدعاء له ، ثم أذهب أنا وابني للفقراء والمساكين ونقدم لهم الصدقات ، بغية التقرب إلى الله لشفائه ..
فلم يخيب الله رجاءها ودعاءها ، فخرجت في آخر زيارة وزوجها معها إلى البيت الذي طال انتظاره لعودة صاحبه إليه ، لتعود البسمة والفرحة له وإلى أفراد أسرته .
فما أينع هذا الثمر ، وما ألذ مذاقه ، { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
حدّث بهذه القصة الأستاذ الكريم : أحمد سالم بادويلان في كتابه لا تيئس وفقه الله وجزاه الله عنا خير الجزاء .
فضل الله كبير فهو القائل : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فلنبحث عن طرقه ومواطنه ، وإن من أجل مواطنه الإنفاق على الأهل والأقارب بنية القربة إلى الله تعالى ، فهذه أم سلمة رضي الله عنها تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقول له : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ ) رواه البخاري .
وهل يخلو يوم لا ننفق فيه على أزواجنا وأولادنا ؟! غير أن الأمر يحتاج إلى احتساب وطلب أجر من رب العالمين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ ) رواه البخاري .
فإن كتب الله لك البركة في رزقك فلا تبخل على نفسك وإخوانك في بلدك وخارجه من نفقة مباركة قليلة أو كثيرة :
أما قليلة ، فتذكرني بما ذكره لي أحد أئمة المساجد من أنه كان يعظم في أحد عمال النظافة المساكين سرعة استجابته لنداء الإنفاق في سبيل الله ، فإنه مع ضعفه ومسكنته كان لا يتردد عن ذلك ، بل كان كل مرة يبذل نصف ريال أو قريبًا منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا ..
نصف ريال فقط !! انتبه أن تقع في نفسك موقع الاحتقار ، فإن لها عند الله بإذنه ِشأنًا عظيمًا ، أتعلم لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ) رواه البخاري .
إنه نصف ريال فقط .. لكنه ربما تحوّل إلى وقاية عاصمة بإذن الله من نار السعير ، ألا تذكر معي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) متفق عليه .
ولندلف معًا إلى إحدى جهات الخير لنشاهد هذا المنظر السخي : صبي في ليلة العيد يقدِّم للموظف المسؤول عن جمع التبرعات مبلغًا قدره مائتا ريال تقريباً ، وعمره لا يتجاوز العاشرة ، فسأله متعجبًا منه : من أين لك هذا المبلغ وماذا تريد أن نصنع به ؟ فأجاب : إنه مبلغ أعطاني إياه والدي لأشتري به كسوة العيد ، وإني أريد أن يشتري به أحد أيتام المسلمين ثياباً له في العيد جديدة ، أما أنا فتكفيني هذه الثياب التي أرتديها ..
ألا سقى الله هذا البيت الذي ترعرعت فيه ونشأت بين أكنافه يا بني ، وجعلك له قرة عين في الدنيا والآخرة .
وأما أن تكون نفقتك كثيرة ، فتذكر ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قَالَ أَنَسٌ : فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ،فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ) رواه البخاري .
أخي الحبيب : كن واحدًا ممن تدعوا له الملائكة : (اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ) رواه البخاري .
أخي الحبيب : كن واحدًا ممن ينفق الله عليهم ، فإنه يقول في الحديث القدسي : ( أنفق يا ابن آدم يُنْفق عليك ) متفق عليه .
أخي الحبيب : كن على يقين من أن ما أنفقته باق ولم يفن ، وإنما الفناء لما أمسكنا :

أنت للمال إذا أمسكته *** فإذا أنفقته فالمال لك
عن عَائِشَةَ رضي الله عنه : أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَا بَقِيَ مِنْهَا ؟ قَالَتْ : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا ، قَالَ : بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا ) رواه الترمذي وقال : هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
لا .. ليس ما أنفقنا باق فقط ، بل يزيد ويزيد ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ) رواه مسلم .

لقد أخبرني أحد الدعاة (2) بأن تاجرًا كبيرًا من أغنياء هذا البلد الطيب (3)، كان يقول له : ما أنفقت شيئًا في سبيل الله إلا رأيت زيادته عيانًا من بركة الصدقة وفضلها .
واستمع إلى هذا الحديث الذي سيدني لك ثمرة من ثمار هذه الحديقة الجميلة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ [ والشرجة : مسيل الماء ] ، قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، مَا اسْمُكَ : قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يَقُولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ؟ قَالَ : أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا ، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا ، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ، وفي رواية : وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ ) رواه مسلم .
الإنفاق خلق جميل ، ويتضاعف جماله إذا كان على حال من الحاجة أو العوز ، فيلتقي الكرم فيه والإيثار ، دعني أحدثك بما عجب الله منه وهو الكريم المنان سبحانه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود [ أي : بي سوء عيش وجوع ] ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ، ثم أرسل إلى أخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن ذلك، لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضيّف هذا الليلة ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم ، وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل ، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين ، فلمّا أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( لقد عجب الله من صنيعكما بضيفيكما الليلة )) متفق عليه .
إنه مجتمع تربى على أخلاق النبوة ، واستقى من نبعها الصافي ، مجتمع لا يعرف الأنانية والأثرة ، هاك صنفًا من أصنافه يمتدحه النبي صلى الله عليه وسلم بصفة مثالية كريمة ، لو سارت الأمة عليه اليوم ما بقي فيها فقير واحد ، إنهم الأشعريون ، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : ( إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ) رواه البخاري .
واحذر ـ أيها الكريم ـ أن يخيّم عليك اليأس ، فما زال في الأمة من الكرماء من يسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وسلفه الصالح ، فما نسينا أبدًا حملات الخير والتبرع لإخواننا المستضعفين في كل مكان ، صور من العطاء تبتهج من سخائها النفوس ، وتسعد بعطائها القلوب ، وإن المشاهِد لها ليجد أنها صمام الأمان لهذه الأرض ، وسر استقرارها وأمنها ، ولله الحمد والمنة .
لقد أعجبتني حادثتين ذكرهما الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ في ذكرياته ، فقال في التمهيد لهما : (( لقد كان شيخ أبي الشيخ سليم المسوتي ـ رحمه الله ـ على فقره لا يرد سائلاً قط ، ولطالما لبس الجبة أو الفروة فلقي برادنًا يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار ،وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها السائل ، وكان يومًا في رمضان وقد وضعت المائدة انتظارًا للمدفع ، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام ، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له وأعطاه الطعام كله ؟ فلما رأت ذلك امرأته ، ولولت عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده ، وهو ساكت ، فلم تمر نصف ساعة حتى قُرع الباب ، وجاء من يحمل أطباقًا فيها ألوانًا من الطعام والحلوى والفاكهة ، فسألوا : ما الخبر ؟ وإذا الخبر أن [ الأمير ] كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا فغضب وحلف ألا يأكل من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي رحمه الله ؟

ولم أر كالمعروف أما مذاقه *** فحلو وأما لونه فجميل
أما القصة الأخرى : فهي قصة المرأة التي سافر ولدها ، وكانت قد قعدت يومًا تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز ، فجاء سائل فمنعت عن فمها اللقمة وأعطته إياها ، وباتت جائعة ، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدثها بما رأى في سفره ، قال : ومن أعجب ما مرَّ بي : أنه لحقني أسد في الطريق ، وكنت وحدي فهربت منه ، فوثب علي وما شعرت إلا وقد صرت في فمه ، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلصني منه ، ويقول : لقمة بلقمة ، ولم أفهم مراده . فسألته أمه عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير ، نزعت اللقمة من فمها لتنفقها في سبيل الله ، فنُزِع ولدُها من فم الأسد )انتهى كلامه رحمه الله .




من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

ويا لتعاسة البخل ما ألبس صاحبه إلا ثوب دناءة وذل ، عطبٌ حصاده ، منتنة رائحته ، لا يورّث إلا الهلاك للأفراد والأمم والشعوب ، يقول الصادق المصدوق ‘: ( اتَّقُوا الشُّحَّ ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ) رواه مسلم .


يتبع بإذن الله ,,,,


 

رد مع اقتباس