المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 17-10-2011, 08:20 PM   #556
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 120

(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين "120")
بعد أن ذكرت الآيات طرفاً من سيرة اليهود، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرضت لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسؤال: لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟
ذلك لأنه أبو الأنبياء، ولو مكانته بين الأنبياء، والجميع يتمحكون فيه، حتى المشركون يقولون: نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه: إنه نصراني. واليهود قالوا: إنه يهودي. فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتوضح مواصفاتها، وترد وتبطل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته:

{إن إبراهيم كان أمةً .. "120"}
(سورة النحل)


أمة: الأمة في معناها العام: الجماعة، وسياق الحديث هو الذي يحدد عددها، فنقول مثلاً: أمة الشعراء. أي: جماعة الشعراء، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد، كما في قوله تعالى:

{ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون .. "23"}
(سورة القصص)


فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد، وهو سقي دوابهم. وتطلق الأمة على جنس في مكان، كأمة الفرس، وأمة الروم، وقد تطلق على جماعة تتبع نبياً من الأنبياء، كما قال سبحانه:

{وإن من أمة إلا خلا فيها نذير "24"}
(سورة فاطر)


وحين نتوسع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم؛ لأنه أرسل للنا كافة، وجمع الأمم في أمة واحدة، كما قال تعالى:

{إن هذه أمتكم أمة واحدة "92"}
(سورة الأنبياء)


ومعنى أمة واحدة. أي: جامعة لكل الأمم.
فالمعنى ـ إذن ـ أن إبراهيم عليه السلام ـ يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلقه في الرسل تسمى كمالات بشرية موهوبة من الله. أما ما دون الرسل فقد وزعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كل إنسان واحداً منها، فهذا أخذ الحلم، وهذا الشجاعة، وهذا الكرم، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل.
فإذا نظرت إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ وجدت فيه من المواهب ما لا يوجد إلا في أمة كاملة. كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حدد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول: الخير في ـ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه ـ وفي أمتي".
أي: أن كل واحد منهم أخذ جزءاً من هذا الكما، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مبعثر في أمته كلها.
لذلك حين تتبع تاريخ إبراهيم ـ عليه السلام ـ في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خصلة من خصال الخير، وصفة من صفات الكمال، فإذا جمعت هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني: أمة: أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته. وقوله:

{قانتا لله .. "120"}
(سورة النحل)


أي: خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته.

{حنيفاً "120"}
(سورة النحل)


الحنف في الأصل: الميل، وقد جاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحاد عن هذا الفساد.
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طم الفساد، إذن: ميله عن الاعوجاج والفساد، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق، مائلاً عن الاعوجاج حائدا عن الفساد. ثم ينهي الحق سبحانه الآية بقوله:

{ولم يك من المشركين "120"}
(سورة النحل)


وهذه الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله، فما فائدة نفي الشرك عنه مرة أخرى في:

{ولم يك من المشركين "120"}
(سورة النحل)


يجب أن نفرق بين أنواع الشرك، فمنه الشرك الأكبر، وهو أن تجعل لله شركاء، وهو القمة في الشرك. ومنه الشرك الخفي، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دخل في تكون الأشياء. فالآية هنا:

{ولم يك من المشركين "120"}
(سورة النحل)


أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفت عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شرك الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفي.
ولذلك عندما ألقى ـ عليه السلام ـ في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإن جاءت على يد جبريل ـ عليه السلام ـ، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا. فأين الشرك الخفي ـ إذن ـ والأسباب عنده معدومة من البداية؟


 

قديم 17-10-2011, 08:20 PM   #557
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 121

(شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم"121")
قوله تعالى:

{شاكراً لأنعمه "121"}
(سورة النحل)


فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة، فلا يليق بكم هذا الكفر والجحود، وأنتم تدعون أنكم على ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ فإبراهيم لم يكن كذلك، بل كان شاكراً لله على نعمه. وقوله:

{اجتباه "120"}
(سورة النحل)


اصطفاه واختاره للنبوة، واجتباء إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان عن اختبار، كما قال تعالى:

{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن "124"}
(سورة البقرة)


أي: اختبره ببعض التكاليف، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه فقال له ربه:

{قال إني جاعلك للناس إماماً "124"}
(سورة البقرة)


ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال:

{قال ومن ذريتي "124"}
(سورة البقرة)


فعدل الله له هذه الرغبة، وصحح له، بأن ذريتك ستكون منها الظالم، فقال:

{لا ينال عهدي الظالمين "124"}
(سورة البقرة)


لذلك تعلم إبراهيم ـ عليه السلام ـ من هذا الموقف، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال:

{اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر .. "126"}
(سورة البقرة)


فصحح الله له أيضاً هذا المطلب، فالموقف هنا مختلف عن الأول، الأول كان في إمامة القيم والدين، وهذه لا يقوم بها ظالم، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فالجميع في الرزق سواء، فقال تعالى:

{ومن كفر .. "126"}
(سورة البقرة)


أي: سأرزق الكافر أيضاً.
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تربي الأنبياء، وتصنعهم على عينها، فكل مواقف الأنبياء تتجمع في النهاية، وتعطينا خلاصة الكمال البشري.
ويدل على دقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ في أداء ما طلب منه موقفه في بناء البيت، فبعد أن دله الله على مكانه أخذ يزيح عنه آثار السيول، ويكشف عن قواعده، وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أن يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع، ولكنه أحب أن يأتي بحجر مرتفع، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم، كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان.
وكذلك موقفه الإيماني وتخليه عن الأسباب، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، وفي مكان خالٍ من مقومات الحياة وأسباب العيش.
إنه لا يؤمن بالأسباب، إنما يؤمن بمسببها، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يوفر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر: أهذا منزل أنزلكه الله أم من عندك؟
فلما علمت أنه من الله قالت: إذن لن يضيعنا. وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته، وملأ قلبها يقيناً في الله تعالى. وقوله سبحانه:

{وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ "121"}
(سورة النحل)


كيف .. بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات (وهداه) أليست هذه كلها هداية؟ نقول: المراد زاده هداية، كما قال تعالى:

{والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم "17"}
(سورة محمد)


 

قديم 17-10-2011, 08:20 PM   #558
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 122

(وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين"122")
الحق سبحانه يبين أن جزاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ عظيم في الدنيا قبل جزاء الآخرة، والمراد بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الأديان له، وكثرة الأنبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن.
وهانحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به. وهذا العطاء من الله لإبراهيم في الدنيا؛ لأنه بالغ في طاعة ربه وعبادته. وقد طلب إبراهيم ـ عليه السلام ـ من ربه هذه المكانة، فقال:

{رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين "83" واجعل لي لسان صدق في الآخرين "84"}
(سورة الشعراء)


حكماً: أي: حكمة أضع بها الأشياء في مواضعها. ولسان صدق: هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت. وقوله تعالى:

{وإنه في الآخرة لمن الصالحين "122"}
(سورة النحل)


 

قديم 17-10-2011, 08:21 PM   #559
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 123

(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين "123")
الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضاً من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين، وأنه شاكر لأنعمه، واجتباه ربه وهداه .. الخ قال:

{ثم أوحينا إليك "123"}
(سورة النحل)


يا محمد:

{أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً "123"}
(سورة النحل)


كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته. وملة إبراهيم: أي شريعة التوحيد. ثم يؤكد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول:

{وما كان من المشركين "123"}
(سورة النحل)



 

قديم 17-10-2011, 08:21 PM   #560
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 124

(إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون"124")
بعد أن تحدث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء، وذكر جانباً من صفاته ومناقبه تكلم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم، وكأن القرآن يقول لهم: لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهودياً، فهاهي صفات إبراهيم، فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالاً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت. و(السبت) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد، والسبت مأخوذ من سبت يسبت سبتاً. يعني: سكن واستقر، ومنه قوله تعالى:

{وجعلنا نومكم سباتاً "9"}
(سورة النبأ)


ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل، ويتفرغون فيه لعبادة الله، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ أن يكون يوم الجمعة، فهو اليوم الذي أتم الله فيه خلق الكون في ستة أيام، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا:
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد، وانتهى منها يوم الجمعة، وارتاح يوم السبت، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بدء الخلق. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة.
إذن: اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة، فهذا مطلبهم، وقد وافقهم ربهم سبحانه وتعالى عليه، وأمرهم أن يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم، وافقهم ليبين لجاجتهم وعنادهم، وأنهم لن يوفوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم، ووافقهم ليقطع حجتهم، فلو اختار لهم يوماً لاعترضوا عليه، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة، هي أن الآيات التي تأتي مصدقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه، وقد تكون باختيار المرسل إليهم أنفسهم، وقد كان من بني إسرائيل أن كذبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى:

{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون "59"}
(سورة الإسراء)


أي: لكونهم يقترحون الآية ثم يكذبونها، فأمرهم تكذيب في تكذيب. وقصة السبت ذكرت في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى:

{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون "163"}
(سورة الأعراف)


لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم، وأخلفوا ما التزموا به، وذهبوا للصيد في يوم السبت، فكادهم الله وأغاظهم، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع، ولا ينتفعون منها بشتى إلا الحسرة والأسف، فيقولون: لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم:

{ويوم لا يسبتون لا تأتيهم .. "163"}
(سورة الأعراف)


وقد سمى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله، قال تعالى:

{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين"65"}
(سورة البقرة)


وقوله تعالى:

{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه .. "124"}
(سورة النحل)


كلمة (اختلفوا) توحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية، والحقيقة أن الخلاف لم يكن بين اليهود بعضهم البعض، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت، فجعل الله الخلاف عليهم.
فالمعنى: إنما جعل السبت حجة على الذين اختلفوا فيه؛ لأن اثبت عدوانهم على يوم العبادة، فبعد أن اقترحوه اختاروه انقلب حجة عليهم، ودليلاً لإدانتهم. ولو تأملنا قوله:

{على الذين .. "124"}
(سورة النحل)


نجد أن كلمة (على) تدل على الفوقية أي: أن لدينا شيئاً أعلى شيئاً أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم. ومن ذلك قوله تعالى:

{وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم .. "6"}
(سورة الرعد)


يؤولها بعضهم على معنى (مع ظلمهم) نقول: المعنى صحيح، ولكن المعية لا تقتضي العلو، فلو قلنا: مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية، أما قول الحق سبحانه:

{وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم .. "6"}
(سورة الرعد)


أي: أن المغفرة علت على الظلم، فالظلم يتطلب العقاب، ولكن رحمة الله ومغفرته علت على أن تعامل الظالم بما يستحق، فرحمة الله سبقت غضبه، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه:

{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق "39"}
(سورة إبراهيم)


 

قديم 17-10-2011, 08:21 PM   #561
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 125

(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"125")
فبعد أن تحدثت الآيات عن النموذج الإيماني الأعلى في الإنسان في شخص أبي الأنبياء إبراهيم، وجعلت من أعظم مناقبه أن الله أمر خاتم رسله باتباعه، أخذت في بيان الملامح العامة لمنهج الدعوة إلى الله. قوله:

{ادع إلى سبيل ربك .. "125"}
(سورة النحل)


الحق تبارك وتعالى لا يوجه هذا الأمر بالدعوة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يعلم أنه سينفذ ما أمر به، وسيقوم بأمر الدعوة، ويتحمل مسئوليتها. (ادع): بمعنى دل الناس وارشدهم.

{سبيل ربك .. "125"}
(سورة النحل)


السبيل هو الطريق والمنهج، والحكمة: وضع الشيء في موضعه المناسب، ولكن لماذا تحتاج الدعوة إلى الله حكمة؟
لأنك لا تدعو إلى منهج الله إلا من انحرف عن هذا المنهج، ومن انحرف عن منهج الله تجده ألف المعصية وتعود عليها، فلابد لك أن ترفق به لتخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح، فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره، لأنك تجمع عليه شدتين:
شدة الدعوة والعنف فيها، وشدة تركه لما أحب وما ألف من أساليب الحياة، فإذا ما سلكت معه مسلك اللين والرفق، وأحسنت عرض الدعوة عليه طاوعك في أن يترك ما كان عليه من مخالفة المنهج الإلهي.
ومعلوم أن النصح في عمومه ثقيل على النفس، وخاصة في أمور الدين، فإياك أن تشعر من تنصحه أنك أعلم منه أو افضل منه، إياك أن تواجهه بما فيه من النقص، أو تحرجه أمام الآخرين؛ لأن كل هذه التصرفات من الداعية لا تأتي إلا بنتيجة عكسية، فهذه الطريقة تثير حفيظته، وربما دعته إلى المكابرة والعناد.
وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى:

{بالحكمة والموعظة الحسنة .. "125"}
(سورة النحل)


ويروي في هذا المقام ـ مقام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ـ قصة دارت بين الحسن والحسين رضي الله عنهما، هذه القصة تجسد صادق لما ينبغي أن يكون عليه الداعية.
فيروى أنهما رأيا رجلاً لا يحسن الوضوء، وأراد أن يعلماه الوضوء الصحيح دون أن يجرحا مشاعره، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما، كل منهما يقول للآخر: أنت لا تحسن أن تتوضأ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أن يرى كلاً منهما يتوضأ، ثم يحكم: أيهما أفضل من الآخر، وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء، بعدها جاء الحكم من الرجل يقول: كل منكما أحسن، وأنا الذي ما أحسنت.
إنه الوعظ في أعلى صورة، والقدوة في أحكم ما تكون.

<مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، حينما أتاه شاب في فورة شبابه، يشتكي عدم صبره عن رغبة الجنس، وهي ـ كما قلنا ـ من أشرس الغرائز في الإنسان. جاء الشاب وقال: "يا رسول الله إئذن لي في الزنا".
هكذا تجرأ الشاب ولم يخف علته، هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة، ومعرفة العلة أول خطوات الشفاء. فماذا قال رسول الله؟
انظر إلى منهج الدعوة، كيف يكون، وكيف استل رسول الله صلى الله عليه وسلم الداء من نفس هذا الشاب؟ فلم يزجره، ولم ينهره، ولم يؤذه، بل أخذه وربت على كتفه في لطف ولين، ثم قال:
"أتحبه لأمك؟ قال: لا يا رسول الله، جعلت فداك. قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لأختك؟
قال: لا يا رسول الله جعلت فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم".
وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الشاب ودعا له: "اللهم نق صدره، وحصن فرجه" فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه أن يزني، وهو يقول: فوالله ما همت نفسي بشيء من هذا، إلا ذكرت أمي وأختي وزوجتي>

فلنتأمل هذا التلطف في بيان الحكم الصحيح، فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة ولين وحسن تصرف، إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مراً يغلفونه بغلالة رقيقة حلوة المذاق ليستسيغه المريض، ويسهل عليه تناوله. وما أشبه علاج الأبدان بعلاج القلوب في هذه المسألة.
ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى الله: النصح ثقيل فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً .. والحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان.

<وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن شيء لا يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع الإيمان بالمدينة كان يصعد منبره الشريف، ويقول: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا">

ويكتفي بالتوجيه العام دون أن يجرح أحداً من الناس على حد قولهم في الأمثال: إياك أعني واسمعي يا جاره.
ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلاء في الريف حينما يتعرض أحد للسرقة، أو يضيع منه شيء ذو قيمة، فكانوا يعتلون عن فقد الشيء الذي ضاع أو سرق ويقول: ليلة كذا بعد غياب القمر سوف نرمي التراب.
ومعنى "نرمي التراب" أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء المفقود، وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فقد منهم، ويصلوا إلى ضالتهم دون أن يفتضح الأمر، ودون أن يحرج أحد، وربما لو واجهوا السارق لأنكر وتعقدت المسألة.
وقوله سبحانه:

{وجادلهم بالتي هي أحسن .. "125"}
(سورة النحل)


والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا، وعلى كل من الطرفين أن يعرض حجته بالتي هي احسن. أي: في رفق ولين ودون تشنج أو غطرسة.
ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألا تغضب الخصم، فقد يتمحك في كلمة منك، ويأخذها ذريعة للانصراف من هذا المجلس. وقوله سبحانه:

{إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين "125"}
(سورة النحل)


قد يتساءل البعض: ما علاقة هذا التذييل للآية بموضوع الدعوة إلى الله؟
يريد الحق سبحانه أن يبين لنا حساسية هذه المهمة، وأنها تبني على الإخلاص لله في توجيه النصيحة، ولا ينبغي للداعية أبداً أن يغش في دعوته، فيقصد من ورائها شيئاً آخر، وقد تقوم بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ، أو شعور أنك افضل منه أو اعلم منه.
ومن الناس ـ والعياذ بالله ـ من يجمع القشور عن موضوع ما، فيظن أنه أصبح عالماً، فيضر الناس أكثر مما ينفعهم.
إذن: إن قبل الغش في شيء فإنه لا يقبل في مجال الدعوة إلى الله، فإياك أن تغش بالله في الله؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمن ضل الناس، ويصدهم عن سبيل الله،


 

قديم 17-10-2011, 08:22 PM   #562
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 126

(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "126")
نلاحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى:

{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .. "194"}
(سورة البقرة)


وبمقارنة الآيتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد الاعتداء:

{فعاقبوا بمثل .. "126"}
(سورة النحل)


و {فاعتدوا عليه بمثل .. "194"}
(سورة البقرة)

إذن: الحق سبحانه، وإن شرع لنا الرد على الاعتداء بالمثل، إلا أن جعله صعباً من حيث التنفيذ، فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد، بحيث يكون مثله تماماً دون اعتداء، ودون زيادة في العقوبة، وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارة إلى استحباب الانصراف عنها إلى ما هو خير منها، كما قال تعالى:

{ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "126"}
(سورة النحل)


فقد جعل الله في الصبر سعة، وجعله خيراً من رد العقوبة، ومقاساة تقدير المثلية فيها، فضلاً عما في الصبر من تأليف القلوب ونزع الأحقاد، كما قال الحق سبحانه:

{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم "34"}
(سورة النحل)


ففي ذلك دفع لشراسة النفس، وسد لمنافذ الانتقام، وقضاء على الضغائن والأحقاد. وقوله:

{لهو خير للصابرين "126"}
(سورة النحل)


الخيرية هنا من وجوه:
أولاً: في الصبر وعدم رد العقوبة بمثلها إنهاء للخصومات وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة لا تنتهي من العداوة.
ثانياً: من ظلم من الخلق، فصبر على ظلمهم، فقد ضمن أن الله تعالى في جواره؛ لأن الله يغار على عبده المظلوم، ويجعله في معيته وحفظه؛ لذلك قالوا: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم لضن عليه بالظلم.
والمتتبع لآيات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابهاً في تذييل بعض الآيات. يقول تعالى:

{واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور "17"}
(سورة لقمان)


وفي آية أخرى:

{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور "43"}
(سورة الشورى)


ولا ننسى أن المتكلم هو الله، إذن: ليس المعنى واحداً، فلكل حرف هنا معنى، والمواقف مختلفة، فانظر إلى دقة التعبير القرآني. ولما كانت المصائب التي تصيب الإنسان على نوعين:
النوع الأول: هناك مصائب تلحق الإنسان بقضاء الله وقدره، وليس له غريم فيها، كمن أصيب في صحته أو تعرض لجائحة في ماله، أو انهار بيته .. الخ. وفي هذا النوع من المصائب يشعر الإنسان بألم الفقد ولذعة الخسارة، لكن لا ضغن فيها على أحد.
إذن: الصبر على هذه الأحداث قريب؛ لأنه ابتلاء وقضاء وقدر فلا يحتاج الأمر بالصبر هنا إلى توكيد، ويناسبه قوله تعالى:

{واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور "17"}
(سورة لقمان)


أما النوع الآخر: فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل، كالقتل مثلاً، فإلى جانب الفقد يوجد غريم لك، يثير حفيظتك، ويهيج غضبك، ويدعوك إلى الانتقام كلما رأيته، فالصبر في هذه أصعب وحمل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الآية الثانية:

{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور "43"}
(سورة الشورى)


فاستعمل هنا لام التوكيد؛ لأن الصبر هنا شاق، والفرصة متاحة للشيطان ليؤلب القلوب، ويثير الضغائن والأحقاد. كما نلاحظ في الآية الأولى قال: (واصبر). وفي الثانية قال: (صبر وغفر) لأن أمامه غريماً يدعوه لأن يغفر له.
ويحكي في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رجلاً مالاً على أن يرده في أجل معلوم، واشترط عليه إن لم يف بالسداد في الوقت المحدد يقطع رطلاً من لحمه، ووافق الرجل، وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه.
فرفع اليهودي الأمر إلى القاضي وقص عليه ما بينهما من اتفاق، وكان القاضي صاحب فطنة فقال: نعم العقد شريعة المتعاقدين، وأمر له بسكين. وقال: خذ من لحمه رطلاً، ولكن في ضربة واحد، وإن زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت.
ولما رأى اليهودي مشقة ما هو مقدم عليه آثر السلامة وتصالح مع خصمه. والسؤال الآن: ما علاقة هذه الآية:

{وإن عاقبتم .. "126"}
(سورة النحل)


 

قديم 17-10-2011, 08:22 PM   #563
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 127

(واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون "127")
بعد أن ذكرت الآيات فضل الصبر وما فيه من خيرية، وكأن الآية السابقة تمهد للأمر هنا (واصبر) ليأتمر الجميع بأمر الله، بعد أن قدم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة لا ضعفاً، كما يقولون في الحكمة: من الشجاعة أن تجبن ساعة.
فإذا ما وسوس لك الشيطان، وأغراك بالانتقام، وثارت نفسك، فالشجاعة أن تصبر ولا تطاوعهما. قوله تعالى:

{واصبر وما صبرك إلا بالله "127"}
(سورة النحل)


من حكمة الله ورحمته أن جعلك تصبر على الأذى؛ لأن في الصبر خيراً لك، والله هو الذي يعينك على الصبر، ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك، وتجرك إلى الانتقام.
والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لإنفاذ أمره، فإذا علم ذلك من نيته تولى أمره وأعانه، كما قال تعالى:

{والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم "17"}
(سورة محمد)


إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت، فالله يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية، وحين تتجه إليه يجند الله لك الخواطر الطيبة التي تعينك عليه وتيسره لك وترضيك به، فيأتي صبرك جميلاً، لا سخط فيه ولا اعتراض عليه.
ثم يقول تعالى:

{ولا تحزن عليهم .. "127"}
(سورة النحل)


لقد امتن الله على أمة العرب التي استقبلت دعوة الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ومن أوسطهم، يعرفون حسبه ونسبه وتاريخه وأخلاقه، وقد كان صلى الله عليه وسلم محباً لقومه حريصاً على هدايتهم، كما قال تعالى:

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم "128"}
(سورة التوبة)


أي: تعز عليه مشقتكم، ويؤلمه عنتكم وتعبكم، حريص عليكم، يريد أن يستكمل لكل كل أنواع الخير؛ لأن معنى الحرص: الضن بالشيء، فكأنه صلى الله عليه وسلم يضن بقومه.

<وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه">

لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبرهم عن قبول الحق، وهو يريد لهم الهداية والصلاح؛ لأنك إذا أحببت إنساناً أحببت له ما تراه من الخير، كمن ذهب إلى سوق، فوجدها رائجة رابحة، فدل عليها من يحب من أهله ومعارفه. كذلك لما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان أحب أن يشاركه قومه هذه المتعة الإيمانية.
والحق سبحانه وتعالى هنا يسلي رسوله، ويخفف عنه ما صدم في قومه، يقول له: لا تحزن عليهم ولا تحمل نفسك فوق طاقتها، فما عليك إلا البلاغ. ويخاطبه ربه في آية أخرى:

{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا "6"}
(سورة الكهف)


أي: لا تكن مهلكاً نفسك أسفاً عليهم. وقوله:

{ولا تك في ضيق مما يمكرون "127"}
(سورة النحل)


الضيق: تأتي بالفتح وبالكسر، ضِيق، ضَيق.
والضيق: أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تقدره، والضيق يقع للإنسان على درجات، فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر.
وربما ضاقت عليه الدنيا كلها، وفي هذه الحالة يمكن أن تسعه نفسه، فإذا ضاقت عليه نفسه فقد بلغ أقصى درجات الضيق، كما قال تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول الله:

{وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم .. "118"}
(سورة التوبة)


فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون في ضيق من مكر الكفار؛ لأن الذي يضيق بأمر ما هو الذي لا يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق، إنما الذي يعرف أن له منفذاً ومخرجاً فلا يكون في ضيق.
فالمعنى: لا تك في ضيق يا محمد، فالله معك، سيجعل لك من الضيق مخرجاً، ويرد على هؤلاء مكرهم:

{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "30"}
(سورة الأنفال)



 

قديم 17-10-2011, 08:23 PM   #564
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 128

(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"128")
هذه قضية معية الله لمن اتقاه، فمن اتقى الله فهو في جواره ومعيته، وإذا كنت في معية ربك فمن يجرؤ أن يكيدك، أو يمكر بك؟
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية الله تعالى وتتجسد لنا في الغار حينما أحاط به الكفار، والصديق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". فما علاقة هذه الإجابة من رسول الله بما قال أبو بكر؟
المعنى: مادام أن الله ثالثهما إذن فهما في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، فمن كان في معيته كذلك لا تدركه الأبصار. وقوله:

{اتقوا .. "128"}
(سورة النحل)


التقوى في معناها العام: طاعة الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومن استعمالاتها نقول: اتقوا الله، واتقوا النار، والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة.
فمعنى "اتق الله": اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزاً يحميك، وذلك باتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن للحق سبحانه صفات رحمة، فهو: الرؤوف الرحيم الغفور، وله صفات جبروت فهو: المنتقم الجبار العزيز، فاجعل لنفسك وقاية من صفات الانتقام.
ونقول: اتقوا النار، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، والوقاية من النار لا تكون إلا بطاعة الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، إذن: المعنى واحد، ولكن جاء مرة باللازم، ومرة بلازم اللازم. وقوله:

{والذين هم محسنون "128"}
(سورة النحل)


المحسن: هو الذي يلزم نفسه في عبادة الله بأكثر مما ألزمه الله، ومن جنس ما ألزمه الله به، فإن كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، فالإحساس أن تزيدها ما تيسر لك من النوافل، وإن كان الصوم شهر رمضان، فالإحسان أن تصوم من باقي الشهور كذا من الأيام، وكذلك في الزكاة، وغيرها مما فرض الله.

<لذلك نجد أن الإحساس أعلى مراتب الدين، وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك">

والآية الكريمة توحي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعية، وأن الذين هم محسنون لهم جزاء ومعية، كل على حسب درجته؛ لأن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخلقه على مقدار معيتهم معه سبحانه، فالذي اكتفى بما فرض عليه، لا يستوي ومن احسن وزاد، لابد أن يكون للثاني مزية وخصوصية.
وفي سورة الذاريات يقول تعالى:

{إن المتقين في جنات وعيون "15" آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين "16"}
(سورة الذاريات)


لم يقل "مؤمنين"؛ لأن المؤمن يأتي بما فرض عليه فحسب، لكن ما وجه الإحسان عندهم؟ يقول تعالى:

{كانوا قليلا من الليل ما يهجعون "17" وبالأسحار هم يستغفرون "18" وفي أموالهم حق للسائل والمحروم "19"}
(سورة الذاريات)


وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض الله عليهم. ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالى:

{وفي أموالهم حق للسائل والمحروم "19"}
(سورة الذاريات)


ليست الزكاة، بل هي الصدقة، لأنه في الزكاة قال سبحانه:

{حق معلوم .. "24"}
(سورة المعارج)


 

قديم 17-10-2011, 09:03 PM   #565
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 1

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"1")
لو تأملنا خواتيم سورة النحل لوجدناها مقدمة طبيعية لأحداث سورة الإسراء، ولوجدنا توافقاً وتناسباً في ترتيب هاتين السورتين، فقد ختمت النحل ببيان حكم رد العقوبة بمثلها، ثم أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر وبينت جزاء الصابرين، ونهت رسول الله عن الضيق من مكر الكفار.
نستشف من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيستقبل أحداثاً تحتاج إلى صبر وشدائد، تحتاج إلى سعة صدر، وكأن هذه التوجيهات جاءت بمثابة مناعات إيمانية، تحصن رسول الله وتعده لما هو مقبل عليه من أحداث في سورة الإسراء، وكأنها إشارات لما سيحدث من شدائد حتى لا يفاجأ رسول الله بها، ولا تأتيه على غرة.
هذه المناعات التي جاءت في نهاية سورة النحل أشبه بما نلجأ إليه في حفظ سلامة البنية وسلامة القالب، حينما نخاف من الأمراض، إنه ما نسميه بالتطعيم ضد المرض، فيأخذ الجسم من هذا الطعم حصانة تحميه إذا هاجمه المرض. كذلك الحق سبحانه وتعالى يعطي رسوله هذه التحصينات، حتى يواجه الأحداث والشدائد القادمة بصبر وجلد، ويعلم أن الله تعالى لن يخذله، ولن يتخلى عنه، فما أرسل الله رسولاً وخذله أبداً، فإن خذله الناس، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت وجد الملجأ في معيته سبحانه وتعالى.
وفعلاً نزلت الشدائد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قمة هذه الأحداث عند فقد عمه أبي طالب، وزوجه خديجة في عام واحد، ولقسوة هذا عليه سماه "عام الحزن".
ففقد صلى الله عليه وسلم بموت عمه الحماية الخارجية التي كانت تدفع عنه أذى المشركين، وتصد عنه صناديد قريش، وفقد بموت زوجته الحماية الداخلية والملجأ الذين كان يأوي إليه، حيث كانت تواسيه وتهدئ من روعه في أول نزول الوحي عليه. وتبين له بفقه أن ما يجده في الغار من علامات النبوة، وأن الله لن يتخلى عنه وتقول له: "والله إنك لتصل الرحم، وتغيث الملهوف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر".
نعم لقد كان عام حزن فعلاً، فقد فيه السكن الخارجي والداخلي معاً، فأين يذهب صلى الله عليه وسلم. فما عاد يشعر بأمن في مكة، ففكر في أهل الطائف، عساه يجد الأمن والأمان بينهم، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد آذوه أشد الإيذاء، وقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريفة وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم، وعاد منها حزيناً منكسراً إلى مكة مرة أخرى، فلم يجد من يجيره إلا مطعم بن عدي.
ومن هنا نعلم أن نهايات سورة النحل جاءت في موقعها المناسب، وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لقد ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك، ولكن ملجأك إلى الله سيريك أن قسوة الأرض وتجهم الحياة لك سأبدلك به تحية مباركة، في أن أريك حفاوة السماء بك، فبعد ما حدث لك في مكة والطائف:

{ولا تك في ضيق مما يمكرون "127" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.. "128"}
(سورة النحل)


وجاء حادث الإسراء والمعراج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاوة الملأ الأعلى بعد ما أصابه من أذى البشر، وقبل أن يرى رسول الله حفاوة السماء غير الله له نظام الكون.


 

قديم 17-10-2011, 09:03 PM   #566
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 2

(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا "2")
قوله: (وآتينا) أي: أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى:

{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء .. "51" }
(سورة الشورى)


فليس في هذا الأمر مباشرة. و(الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإن أطلق دون أن يقترن بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
والوحي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يعبر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟ نقول: لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، فلا دخل لأحد فيه، ولابد أن يظل لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوحى إليه لفظ ومعنى القرآن الكريم، وأوحى إليه معنى الحديث النبوي الشريف. والحق سبحانه يقول:

{وجعلناه هدىً لبني إسرائيل .. "2" }
(سورة الإسراء)


فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده، بل ليبلغه لبني إسرائيل، وليرسم لهم طريق الهدى الله سبحانه، وقال تعالى في آية أخرى:

{ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل "23" }
(سورة السجدة)


والهدى: هو الطريق الموصل للغاية من أقصر وجه، وبأقل تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين. ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهدى لبني إسرائيل في قوله تعالى:

{ألا تتخذوا من دوني وكيلا "2" }
(سورة الإسراء)


ففي هذه العبارة خلاصة الهدى، وتركيز المنهج وجماعه.
والوكيل: هو الذي يتولى أمرك، وأنت لا تولي أحداً أمرك إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام به، وكان من توكله أحكم منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تلو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لتولي أمرك والقيام بشأنك، فربما وكلت واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
إذن: إذا كنت لبيباً فوكل من لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول:

{وتوكل على الحي الذي لا يموت "58" }
(سورة الفرقان)


ومادام الأمر كذلك، فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويبلغونك عن الله سبحانه. ولذلك الحق سبحانه يقول:

{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك .. "86"}
(سورة الإسراء)


ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟ وقد تحدث العلماء طويلاً في (أن) في قوله:

{ألا تتخذوا من دوني وكيلا "2"}
(سورة الإسراء)


فمنهم من قال: إنها ناهية. ومنهم من قال: نافية، واحسن ما يقال فيها: إنها مفسرة لما قبلها من قوله تعالى:

{وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى .. "2"}
(سورة الإسراء)
{فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى "120" }
(سورة طه)


فقوله: (قال يا آدم) تفسر لنا مضمنون وسوسة الشيطان. ومثله قوله تعالى:

{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه .. "7" }
(سورة القصص)



 

قديم 17-10-2011, 09:04 PM   #567
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 3

(ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا "3")
(ذرية) منصوبة هنا على الاختصاص لقصد المدح، فالمعنى: أخصكم أنتم يا ذرية نوح، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات؟
ذلك لأننا نجينا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلابد لكم أن تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتن عليهم بأن نجى إبراهيم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جربه آباؤهم، ووجدوا أن من يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله. ويقول تعالى:

{إنه كان عبدا شكورا "3" }
(سورة الإسراء)


أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويجنبهم الزلل والانحراف.
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفر للإنسان قوت يومه تطلع إلى قوت العام كله، فإذا توفر له قوت عامه قال: أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خيره، وتراه ينشغل بهم، ويؤثرهم على نفسه، ويترقى في طلب الخير لهم، ويود لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك، فالإنسان عرضة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلنا على وجه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى:

{وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا "9"}
(سورة النساء)


والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن تقوى الله تتعدى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام ـ التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرا على قرية، واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، وسؤال الطعام يدل على صدق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكنزه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلاشك أنه صادق في سؤاله، فهذا دليل على أنها قرية لئام لا يقومون بواجب الضيافة، ولا يقدرون حاجة السائل.
ومن هنا تعجب موسى ـ عليه السلام ـ من مبادرة الخضر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أن يأخذ أجره من هؤلاء اللئام:

{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا "77"}
(سورة الكهف)


وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويظهر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول:

{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك .. "82" }
(سورة الكهف)


فالجدار ملك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخر الله لهما من يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
إذن: فعلة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه. وهنا قد يسأل سائل: ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادرين على حمايته والدفاع عنه. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه:

{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء "21"}
(سورة الطور)


فكرامة للآباء نلحظ بهم الأبناء، حتى وإن قصروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء. وقوله:

{إنه كان عبدا شكورا "3" }
(سورة الإسراء)


 

قديم 17-10-2011, 09:04 PM   #568
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 4

(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا "4")
قوله تعالى:

{وقضينا .. "4" }
(سورة الإسراء)


أي: حكمنا حكماً لا رجعة فيه، وأعلنا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
والقضاء يعني الفصل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفصل لابد له من قاضٍ مؤهل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن: لابد أن يكون القاضي مؤهلاً، ولو عرف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميين لا يعرفون عن القانون شيئاً، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قول الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويحكمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لابد له من بينة على المدعي أن يقدمها أو اليمين على من أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عرضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
وقد يستطيع الظالم أن يعمي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحول الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا. فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بينة ولا شهود، ولا يقدر أحد أن يعمي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
ففي الحديث الشريف: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار".
فرد صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أن يراجع نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمن يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب:
"استفت قلبك، وإن أفتوك، وإن أفتوك، وإن أفتوك".
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مميزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يراجع نفسه ويتدبر أمره. وقوله:

{في الكتاب .. "4" }
(سورة الإسراء)


أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حكماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أينفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم ـ عليه السلام ـ قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأن يطيعوا أمره.
وقوله تعالى:

{لتفسدن في الأرض مرتين .. "4" }
(سورة الإسراء)


 

قديم 17-10-2011, 09:04 PM   #569
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 5

(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا "5")
معلوم أن (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان، كما تقول: إذا جاء فلان أكرمته، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.
وقوله: (وعد). والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى، وإنما بشيء مستقبل. و(أولاهما) أي: الإفساد الأول. وقوله:

{بعثنا عليكم عباداً لنا .. "5" }
(سورة الإسراء)


وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة (عباداً) لا تطلق إلا على المؤمنين، أما جالوت الذي قتله طالوت، وبختنصر فهما كافران. وقد تحدث العلماء في قوله تعالى:

{عباداً لنا .. "5"}
(سورة الإسراء)


فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء، وأن قوله (عباداً) تقال للمؤمن وللكافر، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حسب زعمهم. ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام:

{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب "116" ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد "117" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "118" }
(سورة المائدة)


والشاهر في قوله تعالى:

{إن تعذبهم فإنهم عبادك .. "118" }
(سورة المائدة)


فأطلق كلمة "عبادي" على الكافرين، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر، وهما كافران قد سلطا على بني إسرائيل. ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله:

{أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء .. "17" }
(سورة الفرقان)


فأطلق كلمة (عباد) على الكافرين أيضاً.
إذن: قوله تعالى:

{بعثنا عليكم عباداً لنا .. "5"}
(سورة الإسراء)


ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين، فقد يكونون من الكفار، وهنا نستطيع أن نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم، ويسلط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلط عليه من هو أكثر منه ظلماً، وأشد منه بطشاً، كما قال سبحانه:

{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون "129" }
(سورة الأنعام)


وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تطلق على المؤمنين وعلى الكافرين، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تطلق إلا على المؤمنين. ومن ذلك قوله تعالى:

{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "63" والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما "64" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما "65" إنها ساءت مستقرا ومقاما "66" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "67"}
(سورة الفرقان)


 

قديم 17-10-2011, 09:05 PM   #570
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 6

(ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً "6")
الخطاب في هذه الآية موجه لبني إسرائيل، والآية تمثل نقطة تحول وانقلاب للأوضاع، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين، وأن الله سلطهم لتأديب بني إسرائيل، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر؛ لأن المسلمين تخلوا عن منهج الله الذي ارتفعوا به، وتنصلوا من كونهم عباداً لله، فدارت عليهم الدائرة، وتسلط عليهم اليهود، وتبادلوا الدور معهم؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات.
ولابد أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكب للطريق المستقيم، فانحلت الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دولاً، لكل منها جغرافياً، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلت عنهم صفة عباد الله.
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كفتهم وتخلوا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلط عليهم عدوهم ليؤدبهم، فأصبحت الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى:

{ثم رددنا لكم الكرة عليهم .. "6" }
(سورة الإسراء)


و(ثم) حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومن ذلك قوله تعالى:

{ثم أماته فأقبره "21" ثم إذا شاء أنشره "22" }
(سورة عبس)


فلم يقل الحق سبحانه: فرددنا، بل (ثم رددنا). ذلك لأن بين الكرة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكرة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وعد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكرة لهم علينا في عام 1967، فناسب العطف بـ"ثم" التي تفيد التراخي. والحق سبحانه يقول:

{ثم رددنا لكم الكرة .. "6" }
(سورة الإسراء)


أي: جعلنا لبني إسرائيل الغلبة والقوة والنصر على المسلمين وسلطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتهم عباداً لله.
و(الكرة) أي: الغلبة من الكر والفر الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يقدم مرة، ويتراجع أخرى. وقوله تعالى:

{وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً "6"}
(سورة الإسراء)


وفعلاً أمدهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدهم بالبنين الذين يعلمونهم ويثقفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كرة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى:

{وجعلناكم أكثر نفيراً "6" }
(سورة الإسراء)
فالنفير من يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين. ومازالت الكرة لهم علينا، وسوف تظل إلى أن نعود كما كنا، عباداً لله مستقيمين على منهجه، محكمين لكتابه،


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:49 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا