المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 20-10-2011, 10:45 AM   #601
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 37

(ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا "37" )
مازالت الآيات تسير في خط واحد، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع.
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يبدأ بقوله تعالى:

{لا تجعل مع الله إلهاً آخر .. "22" }
(سورة الإسراء)


وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلها، ثم قسم المجتمع إلى طبقات، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدت مهمتها في الحياة، وحان وقت إكرامها ورد الجميل لها، فأوصى بالوالدين وأمر ببرهما.
ثم توجه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية، فأوصى بالأولاد، ونهى عن قتلهم خوف الفقر والعوز، وخص بالوصية اليتيم؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان.
ثم تكلم عن المال، وهو قوام الحياة، واختار فيه الاعتدال والتوسط، ونهى عن طرفيه: الإسراف والإمساك. ثم نهى عن الفاحشة، وخص الزنا الذي يلوث الأعراض ويفسد النسل، ونهى عن القتل وسفك الدماء.
ثم تحدث عما يحفظ للإنسان ماله، ويحمي تعبه ومجهوداته، فأمر بتوفية الكيل والميزان، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما، ثم حث الإنسان على الأمانة العلمية، حتى لا يقول بما لا يعلم، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تر أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه، إذن: الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع له توازناً اجتماعياً.
وأول شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء، وكلنا عبيده، وليس منا من بينه وبين الله قرابة أو نسب، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط، لا فرق بينهم إلا بالتوقى والعمل الصالح.
وإن تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً: هذا غني، وهذا فقير.
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت، ويدعون غيرها من النواحي الأخرى، وهذا لا يصح، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية، ولو سلكت هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، وأن الحصيلة واحدة، وصدق الله العظيم القائل:

{إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. "13"}
(سورة الحجرات)


ومادام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أن يرفع رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسة أو منزلة فوق منزلة الآخرين، فقال تعالى:

{ولا تمش في الأرض مرحاً .. "37" }
(سورة الإسراء)


أي: فخراً واختيالاً، أو بطراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء ما افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أن جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هبة له، وليست أصيلة فيه.
كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عدم هي هبة يمكن أن تسترد في يوم من الأيام، وكيف الحال إذا تكبرت بمالك، ثم رآك الناس فقيراً، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً؟
إذن: فالتواضع والأدب أليق بك، والتكبر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكون الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا.
ومن أحب أن يرى مساواة الخلق أمام الخالق سبحانه، فلينظر إلى العبادات، ففيها استطراق العبودية في الناس، فحينما ينادى للصلاة مثلاً ترى الجميع سواسية: الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، الوزير مثلاً والخفير، الكل راكع أو ساجد، الكل خاضع لله متذلل لله فقير لله، الكل عبيد لله بعد أن خلعوا أقدارهم، عندما خلعوا نعالهم، ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع، وتتجلى لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج.
والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلل، لماذا؟ لأن الخضوع هنا والتذلل لله، وهذا عين العزة والشرف والكرامة. ثم يقول تعالى:

{إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً "37"}
(سورة الإسراء)


في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين، ولأصحاب الكبرياء الكاذب: كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم؟
فأنتم بهذا التكبر والتعالي لن تخرقوا الأرض، بل ستظل صلبة تتحداكم، وهي أدنى أجناس الوجود وتداس بالأقدام، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم ولن تطاولوها. والحق سبحانه وتعالى يوبخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم في:

{ولا تمش في الأرض مرحاً .. "37"}
(سورة الإسراء)


وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوبخ أهل التكبر الكاذب أتى بأدنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد؛ لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضل عليه.


 

قديم 20-10-2011, 10:46 AM   #602
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 38

(كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها"38" )
أي: كل ما تقدم من وصايا وتوجيهات بداية من قوله تعالى:

{لا تجعل مع الله إلهاً آخر .. "22"}
(سورة الإسراء)


وهذه الأمور التي تقدمت، والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلامته فيها السيئ وفيها الحسن، والسيئ هو المكروه من الله تعالى، والله تعالى لا يكره إلا ما خالف منهج العبودية له سبحانه، أما الإنسان فيكره ما يخالف هواه، ولا يتفق ومزاجه.
وهذه الأوامر والنواهي التي تقدمت يقولون: إنها الوصايا العشر التي نزلت على موسى ـ عليه السلام ـ والمقصود في قوله تعالى:

{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها .. "145"}
(سورة الأعراف)


 

قديم 20-10-2011, 10:46 AM   #603
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 39

(ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا"39" )
(ذلك) أي: ما تقدم من الوصايا.
(الحكمة) هي: وضع الشيء في موضعه المؤدي للغاية منه، لتظل الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمق والسفه والفساد. وقوله:

{ولا تجعل مع الله إلهاً آخر .. "39" }
(سورة الإسراء)


لسائل أن يسأل: لماذا كرر هذا النهي، وقد سبق أن ذكر في استهلال المجموعة السابقة من الوصايا؟
الحق سبحانه وتعالى وضع لنا المنهج السليم الذي ينظم حياة المجتمع، وقد بدأه بأن الإله واحد لا شريك له، ثم عدل نظام المجتمع كله بطبقاته وطوائفه وأرسى قواعد الطهر والعفة ليحفظ سلامة النسل، ودعا إلى تواضع الكل للكل.
فالحصيلة النهائية لهذه الوصايا أن يستقيم المجتمع، ويسعد أفراده بفضل هذا المنهج الإلهي. إذن: فإياك أن تجعل معه إلهاً آخر، وكرر الحق سبحانه هذا النهي:

{ولا تجعل مع الله إلهاً آخر .. "39"}
(سورة الإسراء)


لأنه قد يأتي على الناس وقت يحسنون الظن بعقول بعض المفكرين، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم، ويفضلونها على منهج الحق تبارك وتعالى، فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق إلى قضايا أخرى يوهمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين.
إذن: لا يكفي أن تؤمن أولاً، ولكن احذر أن يزحزك أحد عن دينك فلا تجعل مع الله إلهاً آخر يفتنك عن دينك، فتكون النتيجة:

{فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً "39" }
(سورة الإسراء)


(ملوماً): لأنك أتيت بما تلام عليه، (مدحوراً): أي: مطرود مبعداً من رحمة الله، وهذا الجزاء في الآخرة.
أما الذي لا يؤمن بها، فلابد لكي نستطيع العيش معه في الدنيا، أن يذيقه الله بعض العذاب، ويعجله له في الدنيا قبل عذاب الآخرة، كما قال تعالى:

{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى "123" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا .. "124"}
(سورة طه)


أي: في الدنيا. وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين:

{حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا "86" قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا "87"}
(سورة الكهف)


فقوله:

{فسوف نعذبه .. "87" }
(سورة الكهف)


لأنه ممكن في الأرض، ومنوط به حفظ ميزان الحياة واستقامتها، حتى عند الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإلا فلو أخرنا العذاب عن هؤلاء إلى الآخرة لأفسدوا على الناس حياتهم، وعاثوا في الأرض يعربدون ويفسدون.
ولذلك لا يموت ظلوم في الكون حتى ينتقم الله منه، ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ولابد أن يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة، في حين أن المظلوم في رعاية الله وتأييده ينصره بما يشاء من نعمه وفضله، حتى أن الظالم لو علم بما أعده الله للمظلوم لضن عليه بالظلم


 

قديم 20-10-2011, 10:47 AM   #604
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 40

(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما "40" )
لما جعل بعض المشركين لله ولداً، فمنهم من قالوا: المسيح ابن الله، ومنهم من قالوا: عزيز ابن الله، ومنهم من قالوا: الملائكة بنات الله، فوبخهم الله تعالى: كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات ولكم البنين، إنها قسمة جائرة، كما قال الحق سبحانه في آية أخرى:

{ألكم الذكر وله الأنثى "21" تلك إذا قسمة ضيزى "22" }
(سورة النجم)


أي: قسمة جائرة ظالمة. قوله:

{أفأصفاكم .. "40" }
(سورة الإسراء)


أي: اصطفاكم واختار لكم البنين، وأخذ لنفسه البنات؟
ويقول في آية أخرى:

{وجعلوا له من عباده جزءاً .. "15"}
(سورة الزخرف)


لذلك قال تعالى بعدها:

{إنكم لتقولون قولاً عظيماً "40" }
(سورة الإسراء)


فوصف قولهم بأنه عظيم في القبح والافتراء على الله، كما قال في آية أخرى:

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا "88" لقد جئتم شيئا إداً "89"}
(سورة مريم)


 

قديم 20-10-2011, 10:49 AM   #605
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 41

(ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا "41" )
(صرفنا) أي: حولنا الشيء من حال إلى حال، ومنها قوله تعالى:

{وتصريف الرياح .. "164" }
(سورة البقرة)


يعني تغييرها من حال إلى حال، فمرة: تراها سكسكاً عليلة هادئة، ومرة تجدها رخاءً أي: قوية، ومرة: تجدها إعصاراً مدمراً. والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء، وقد تكون عقيماً لا خير فيها. هذا هو المراد بالتصريف. فمعنى:

{ولقد صرفنا في هذا القرآن .. "41"}
(سورة الإسراء)


أي: صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن، وعالجها في كثير من المسائل؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجات متعددة في مقامات مختلفة من سوره، فتكرر ذكر هذه المسألة. والتكرار قد يكون في ذات الشيء، وقد يكون باللف بالشيء، كما في قوله تعالى:

{فبأي آلاء ربكما تكذبان "13"}
(سورة الرحمن)


وقوله:

{وما يزيدهم إلا نفوراً "41" }
(سورة الإسراء)


أي: بدل أن يذكروا ويعودوا إلى جادة الصواب ازدادوا إعراضاً ونفوراً. ولنا أن نسأل: لماذا الإعراض والنفور منهم؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول:
لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعي الذي وضعه البشر لم يأت أول الأمر، بل جاء نتيجة تسلط الكهنة، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونه باسم الدين، ويلزمون الناس به، ولكن لوحظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يسمى بالسلطة الزمنية.
وهذه السلطة الزمنية هي التي منعت يهود المدينة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته، وكانوا حينما يرون عباد الأصنام في مكة يقولون لهم: سيأتي زمان يبعث فيه نبي في هذا البلد، وسوف نتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا. وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة:

{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "89"}
(سورة البقرة)


لقد تنكر اليهود لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم على يقين من صدقه؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام.


 

قديم 20-10-2011, 10:50 AM   #606
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 42

(قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً"42" )
أي: لو كان مع الله آلهة أخرى لطلبت هذه الآلهة طريقاً إلى ذي العرش. وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله:

{شهد الله أنه لا إله إلا هو .. "18"}
(سورة آل عمران)


وهذه قضية: إما أن تكون صادقة، وإما أن تكون غير ذلك. فإن كانت صادقة فقد انتهت المسألة، وإن كانت غير صادقة، وهناك إله ثانٍ، فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإن كان موجوداً، ولا يدري ـ أو كان يدري بهذه القضية ـ ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهاً.
إذن: مادام أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية، ولم يقم له معارض فقد سلمت له هذه الدعوى. وكلمة (ذي العرش) لا تقال إلا لمن استتب له الأمر بعد عراك وقتال، فيصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة، وإن غلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى:

{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ .. "91"}
(سورة المؤمنون)


أو: يبتغون إليه سبيلاً، ليكونوا من خلقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر:

{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون .. "172"}
(سورة النساء)


ويقول:

{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه .. "57"}
(سورة الإسراء)


 

قديم 20-10-2011, 10:51 AM   #607
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 43

(سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا "43" )
وقوله (سبحانه) يعني تنزيهاً مطلقاً له تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلله تعالى ذات ليست كذاتك، وله صفات ليست كصفاتك، وله أفعال ليست كأفعالك؛ لأن الأشياء تختلف في الوجود بحسب الموجد لها.
فمثلاً: لو بني كل من العمدة، ومأمور المركز، والمحافظ بيتاً، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر، بحسب قدرته ومكانته. وكذلك لابد من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه، وبين رب ومربوب، وبين عابد ومعبود.
إذن: كل الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس. وقوله:

{علواً كبيراً "43"}
(سورة الإسراء)


أي: تعالى الله وتنزه عما يقول هؤلاء علواً كبيراً؛ لأن الناس تتفاوت في العلو. ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار (كبيراً) ولم يقل: اكبر. وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب؛ لأن كبيراً تعني: أن كل ما سواه صغير، لكن اكبر تعني أن ما دونه كبير أي: مشارك له في الكبر.
لذلك نقول في نداء الصلاة: الله اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه؛ ذلك لأن من أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يوصف بأنه كبير، كأعمال الخير والسعي على الأرزاق، فهذه كبيرة، ولكن: الله اكبر.


 

قديم 20-10-2011, 10:51 AM   #608
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 44

(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً "44" )
التسبيح: هو حيثية الإيمان بالله؛ لأنك لا تؤمن بشيء في شيء إلا أن تثق أن من آمنت به فوقك في ذلك الشيء، فأنت لا توكل أحد بعمل إلا إذا أيقنت أنه أقدر منك وأحكم وأعلم.
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً، وليس لأحد شبه به، وإن اشترك معه في مطلق الصفات، فالله غني وأنت غني، لكن غنى الله ذاتي وغناك موهوب، يمكن أن يسلب منك في أي وقت.
وكذلك في صفة الوجود، فالله تعالى موجود وأنت موجود، لكن وجوده تعالى لا عن عدم، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت.
إذن: فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً.
والتسبيح: هو التنزيه، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد من خلقه من ينزهه، والحق سبحانه منزه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق؛ لأنه خالق قبل أن يخلق، كما نقول: فلان شاعر، أهو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعراً؟
الواقع أن الشعر موهبة، وملكة عنده، ولولاها ما قال شعراً، إذن: هو شاعر قبل أن يقول. كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخلق.
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة (سبح) يجدها بلفظ (سبحان) في أول الإسراء:

{سبحان الذي أسرى .. "1"}
(سورة الإسراء)


ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه. ثم بلفظ:

{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض .. "1"}
(سورة الحديد)


بصيغة الماضي، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط، بل من السماوات والأرض، وهي خلق سابق للإنسان. ثم يأتي بلفظ:

{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض .. "1"}
(سورة الجمعة)


بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع. إذن: مادام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، فلا تكن أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني:

{سبح اسم ربك الأعلى "1"}
(سورة الأعلى)


وقوله تعالى:

{وإن من شيءٍ .. "44"}
(سورة الإسراء)


أي: ما من شيء، كل ما يقال له شيء. والشيء هو جنس الأجناس، فالمعنى أن كل ما في الوجود يسبح بحمده تعالى.
وقد وقف العلماء أمام هذه الآية، وقالوا: أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين، وهندسة البناء، وحكمة الخلق، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى منزه ومتعالٍ وقادر، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه. وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله:

{ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. "44"}
(سورة الإسراء)


إذن: يوجد تسبيح دلالة فعلاً، لكنه ليس هو المقصود، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كل بلغته. فقوله تعالى:

{ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. "44"}
(سورة الإسراء)


يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى:

{كل قد علم صلاته وتسبيحه .. "41" }
(سورة النور)


إذن: كل شيء في الوجود علم كيف يصلي لله، وكيف يسبح لله، وفي القرآن آيات تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عالم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لغته، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها؟


 

قديم 20-10-2011, 10:51 AM   #609
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 45

(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا "45" )
الحق سبحانه وتعالى يعدل الأشياء تنفيذاً لأشياء أخرى، ويصنع أحداثاً أولية لتكون بمثابة المقدمة والتمهيد لأحداث أخرى أهم منها. وكفار مكة ما ادخروا وسعاً، وما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتنكيل به إلا فعلوها.
ومع ذلك لم يفاجأ بها رسول الله، ولم تثبط من عزيمته، لماذا؟ لأنه كان متوقعاً لكل هذا الإيذاء، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد.
فالمسألة لم تفاجئ رسول الله؛ لأنه عرفها حتى قبل أن يبعث، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار، وعاد إلى السيدة خديجة فزعاً ذهب به إلى ابن عمها ورقة بن نوف، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي، وأنه صلى الله عليه وسلم سيكون مبعوث السماء إلى الأرض، وأنه نبي هذه الأمة، وقال فيما قال: ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمخرجي هم؟".
قال: نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حصن رسوله صلى الله عليه وسلم ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي يكون على توقع لها، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدت الانهيار، وأعطاه الطعم المناسب للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادلهمت الخطوب، وضاق الخناق عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وماداموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا، هي فرصتهم الوحيدة، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها، ولا يؤخرون منها شيئاً، فإن أجل المؤمن بعض متعه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلام يؤجل الكفار متعهم؟
إذن: الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة.
فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون، فلابد أن يثور هؤلاء الكفار الحريصون على شهواتهم ومكانتهم، لابد أن يصادموا هذه الدعوة، ويقاوموها في ذات الرسول وفي منهجه، في ذاته بالإيذاء، وفي دعوته ومنهجه بصرف الناس عنه، ألم يقل الكفار لمن يرون عنده ميلاً للإسلام:

{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون "26"}
(سورة فصلت)


وقولهم:

{لا تسمعوا لهذا القرآن .. "26"}
(سورة فصلت)


شهادة منهم بصدق القرآن الكريم، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها، وإلا لما قالوا هذا القول.
وقولهم:

{والغوا فيه .. "26"}
(سورة فصلت)


أي: هرجوا وشوشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس، إذن: هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته، وقد دلت تصرفاتهم على ذلك، فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الكعبة، ويجلس بجوارها يدندن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن، والتلذذ بروعته وبلاغته. فقوله تعالى:

{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً "45"}
(سورة الإسراء)


يروى أن أبا جهل، وأبا سفيان، وأبا لهب، وأم جميل كانوا يتابعون رسول الله، ويتنصتون عليه وهو يقرأ القرآن ليروا ما يقول، وليجدوا فرصة لإيذائه صلى الله عليه وسلم، فكان الحق سبحانه يصم آذانهم عن سماع القرآن، فالرسول يقرأ وهم لا يسمعون شيئاً، فينصرفون عنه بغيظهم.
وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة، ليلة أن بيتوا له القتل بضربة رجل واحد، فتحرسه عناية الله وتقوم له: اخرج عليهم ولا تخف، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك.
ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خوفاً، بل خرج وهو يقول "شاهت الوجوه" وهو لا يخشى انتباههم إليه، وأكثر من ذلك: يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده. وقوله:

{حجابا مستوراً "45"}
(سورة الإسراء)


الحجاب: هو المانع من الإدراك، فإن كان للعين فهو مانع للرؤية، وإن كان للأذن فهو مانع للسمع.
وكلمة (مستوراً) اسم مفعول من الستر، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى (ساتراً)، وهذا من قبيل المبالغة في الستر والإخفاء، فالمعنى أن الحجاب الذي يمنعهم من سماعك أو رؤيتك هو نفسه مستور، فإن كان الحجاب نفسه مستوراً، فما بالك بما خلفه؟
ولاشك أن الذهن سينشغل هنا بالحجاب المادي، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنوي ولا يراه أحد، كما في قوله تعالى:

{رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها .. "2"}
(سورة الإسراء)


 

قديم 20-10-2011, 10:52 AM   #610
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 46

(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا"46" )
ومعنى (أكنة) جمع كنان، وهو الغطاء، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلفت قلوبهم في قوله تعالى:

{وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .. "5"}
(سورة فصلت)


الكون كله خلق الله، والإنسان سيد هذا الكون، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه، حتى وإن كان كافراً لا يزال يتقلب في عطاء الربوبية، فلا يحرم منها الكافر بكفره ولا عاص بمعصيته، بل كما قال تعالى:

{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك .. "20"}
(سورة الإسراء)


وسبق أن فرقنا بين عطاء الربوبية المتمثل في كل نعم الحياة وبين عطاء الألوهية، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً، وافعل ولا تفعل.
إذن: عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمل في هذه النعم التي تساق إليه دون سعي منه أو مجهود، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء، هل له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله، وسخرها بقدرته من أجله، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أن ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السبل في صحراء، حتى أوشك على الهلاك، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب، ألا تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتد إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلب في نعم لا تعد ولا تحصى، وقد طرأ على الكون فوجده معداً لاستقباله مهيئاً لمعيشته، فكان عليه أن يجري عملية الاستدلال هذه، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعم.
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عمن كفر، بل إن الكافر حين يتمكن الكفر منه ويغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد، ويزيده مما يحب، كما قال تعالى:

{في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً .. "10"}
(سورة البقرة)


إذن: فقوله تعالى:

{وجعلنا على قلوبهم أكنة .. "46"}
(سورة الإسراء)


لم تأت من الله ابتداءً، بل لما أحبوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فلنزدهم منه. ثم يقول تعالى:

{أن يفقهوه .. "46"}
(سورة الإسراء)


أي: كراهية أن يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رغماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالب تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالب لما استطاع أحد منا أن يشذ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته.
وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى:

{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين "3" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "4"}
(سورة الشعراء)


فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن: فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكنة على قلوبهم، وأحبوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه.
ثم يقول تعالى:

{وفي آذانهم وقراً .. "46"}
(سورة الإسراء)


(وقراً) أي: صمم، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً؛ لأنه ما فائدة السمع؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صمماً. وقوله تعالى:

{وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً "46"}
(سورة الإسراء)


لماذا ولو على أدبارهم نفوراً؟ لأنك أتيت لهم بما يخوفهم ويزعجهم، وبالله لو أن قضية الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرات التكوين، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله؟ فمما يخافون وهم لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجوده تعالى؟
إذن: ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة، فإذا بهم يولون مدبرين في خوف ونفور


 

قديم 20-10-2011, 10:52 AM   #611
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 47

(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا "47" )
الحق سبحانه وتعالى لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه حقيقة كان على الكفار أن ينتبهوا إليها ويراعوها، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:

{ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير "8"}
(سورة المجادلة)


فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول: فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمن أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومن أطلعه عليه؟ ألا يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟
ومادام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يخفى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه: الأول: يستمعون إليك. والثاني: وإذ هم نجوى. والثالث: إذ يقول الظالمون. إذن: هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض.
قالوا: إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حب للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مرهفة للأسلوب وملكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيقوض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإن كانوا معجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من ملكات عربية.
فيروى أن كباراً مثل: النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ـ ممن كانوا يقولون لهم: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" ـ كانوا يذهبون إلى البيت يتسمعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً متسللاً متخفياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حب لسماع القرآن. فقال تعالى:

{نحن أعلم بما يستمعون به .. "47"}
(سورة الإسراء)


أي: بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم:

{وإذا هم نجوى .. "47"}
(سورة الإسراء)


من التناجي وهو الكلام سراً، أو: أن نجوى جمع نجى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى. فالمعنى: نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ. وقوله:

{وإذ هم نجوى .. "47"}
(سورة الإسراء)


فيه مبالغة، كما تقول: رجل عادل، ورجل عدل. ومن تناجيهم ما قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن: "والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه".
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم:

{إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً "47"}
(سورة الإسراء)


وهذا هو القول المعلن عندهم، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة، وبالجنون أخرى، ومرة قالوا: شاعر. وأخرى قالوا: كاهن. وهذا كله إفلاس في الحجة، ودليل على غبائهم العقدي.
وكلمة (مسحوراً) اسم مفعول من السحر، وهي تخييل الفعل. وليس فعلاً، وتخييل القول وليس قولاً، فهي صرف للنظر عن إدراك الحقائق، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير.


 

قديم 20-10-2011, 10:53 AM   #612
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 48

(انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً"48" )
أي: تعجب مما هم فيه من تخبط ولجج، فمرة يقولون عن القرآن: سحر ومرة يقولون: شعر، ويصفونك بأنك: شاعر، وكاهن، وساحر.
ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة: مرسل، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومرسل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومرسل به وهو القرآن الكريم، وقد تخبط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه.
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قولهم:

{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"}
(سورة الزخرف)


وقولهم عن القضية الإيمانية العامة:

{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليمٍ "32" }
(سورة الأنفال)


أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أن يقولوا: فاهدنا إليه تراهم يفضلون الموت على سماع القرآن، وهذا دليل على كبرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورفعة منزلته حتى عند الكافرين به، يرد على الكافرين افتراءهم، ويطمئن قلب رسوله، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى:

{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون .. "33"}
(سورة الأنعام)


أي: قولهم لك: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون

{فإنهم لا يكذبون ولن الظالمين بآيات الله يجحدون "33" }
(سورة الأنعام)


فليست المسألة عندك يا محمد، فهم مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤن على ذلك ولا يتهمونك، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي، وكل تصرفاتهم في مقام الألوهية، وفي مقام النبوة، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم.
وقولهم عن رسول الله: مجنون قول كاذب بعيد عن الواقع؛ لأن ما هو الجنون؟ الجنون أن تفسد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل، والجنون قد يكون بسبب خلقي أي: خلقه الله تعالى هكذا، أو بسبب طارئ كأن يضرب الإنسان على رأسه مثلاً، فيختل عنده مجال التفكير.
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخر له التكليف إلى سن البلوغ واكتمال العقل، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله؛ لأنه لو كلفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سن التكليف ليعوده الصلاة من الصغير ليكون على إلفٍ بها حين يبلغ سن التكليف، وليألف صيغة الأمر من الآمر.
والإنسان لا يشك في حب أبيه وحرصه على مصلحته، فهو الذي يربيه ويوفر له كل ما يحتاج، فله ثقة بالأب المحس، فالحق سبحانه يريد أن يربب فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق؛ لأنها أصبحت عادة.
والذي أعطى للأب حق الأمر أعطاه حق العقاب على تركه ليكون التكليف من الرب الصغير، والعقوبة من الرب الصغير لتعوده بالأبوة المحسة والرحمة الظاهرة على طاعة الحق سبحانه الذي أنعم علي وعليك.
فالعقل ـ إذن ـ شرط أساسي في التكليف، وهو العقل الناضج الحر غير المكره، فإن حدث إكراه فلا تكليف. فقوله:

{انظر كيف ضربوا لك الأمثال .. "48"}
(سورة الإسراء)


أي: قالوا مجنون، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل، وقد رد الحق سبحانه عليهم بقوله:

{ن والقلم وما يسطرون "1" ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ "2" وإن لك لأجر غير ممنونٍ "3" وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ "4"}
(سورة القلم)


فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة، وأثبت له صفة الخلق العظيم، والمجنون لا خلق له، ولا يحاسب على تصرفاته، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا، ولا نملك إلا أن نبتسم في وجهه ونشفق عليه.
ولقائل أن يقول: كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل، وهو الإنسان الذي كرمه الله؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان؟


 

قديم 20-10-2011, 10:53 AM   #613
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 49

(وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا "49" )
الاستفهام في الآية استفهام للتعجب والإنكار لموضع البعث يوم القيامة بعد أن صاروا رفاتاً وعظاماً.
والرفات: هو الفتات ومسحوق الشيء، وهو التراب أو الحطام، وكذلك كل ما جاء على وزن (فعال).
لقد استبعد هؤلاء البعث عن الموت؛ لأنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خلق الإنسان، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقل في الماضي، وهكذا إلى أن نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل، وهو آدم وحواء، فمن أين أتيا إلى الوجود؟ فهذه قضية غيبية كان لابد أن يفكروا فيها.
ولأنها قضية غيبية فقد تولى الحق سبحانه وتعالى بيانها؛ لأن الناس سوف يتخبطون فيها، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويهرفون بما لا يعلمون، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً، وهذه مقولة باطلة يسهل ردها بأن نقول: ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان؟ وعلى فرض أن أصل الإنسان قرد، فمن أين أتى؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأت، إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون مبرر.
وكذلك من القضايا التي تخبط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً، ثم انفصلت عن بعضها، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل.
لذلك أراد الحق سبحانه أن يعطينا طرفاً من هذه القضية، حتى لا نصغي إلى أقوال المضللين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى، ولتكون لدينا الحصانة من الزلل؛ لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية، ولا تؤخذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق. يقول تعالى:

{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم .. "51" }
(سورة الكهف)


أي: لم يكن معي أحد حين خلقت السماء والأرض، وخلقت الإنسان، ما شهدني أحد ليصف لكم ما حدث

{وما كنت متخذ المضلين عضداً "51"}
(سورة الكهف)


أي: ما اتخذت من هؤلاء المضللين مساعداً أو معاوناً، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: احكموا على كل ما يخوض في قضية الخلق هذه بأنه مضلل فلا تستمعوا إليه.
ولكي تريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تحملوا العقل أكثر مما يحتمل، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه، وجدوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية، أما إن جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحمق والتخاريف التي لا تجدي.
وكلمة "العقل" نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير، وكذلك العقل جعله الله ليضبط تفكيرك، ويمنعك من الجموح أو الانحراف في التفكير.
وأيضاً، فالعقل وسيلة الإدراك، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية، والأذن التي هي وسيلة السمع .. ومادام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود، كما أن للعين حدوداً في الرؤية، وللأذن حدوداً في السمع، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك، فعليك أن تضبط العقل في المجال الذي تجود فيه فقط، ولا تطلق له العنان في كل القضايا.
ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم؛ لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل، وأنا أتحدى أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة، فمن الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يبحث؟
لقد اهتديتم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها، وترمحون بعقولكم خلفها، في حين كان من الواجب عليكم أن تقولوا: إن ما وراء المادة هو الذي يبين لنا نفسه.
لقد ضربنا مثلاً لذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ وقلنا: هب أننا في مكان مغلق، وسمعنا طرق الباب ـ فكلنا نتفق في التعقل أن طارقاً بالباب، ولكن منا من يتصور أنه رجل، ومنا من يتصور أنه امرأة، وآخر يقول: بل هو طفل صغير، وكذلك منا من يرى أنه نذير، وآخر يرى أنه بشير. إذن: لقد اتفقنا جميعاً في التعقل، ولكن اختلفنا في التصور.


 

قديم 20-10-2011, 10:53 AM   #614
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 50

(قل كونوا حجارة أو حديدا "50" )
أي: قل رداً عليهم: إن كنتم تستبعدون البعث وتستصعبونه مع أنه بعث للعظام والرفات، وقد كانت لها حياة في فترة من الفترات، ولها إلف بالحياة، فمن السهل أن نعيد إليها الحياة، بل وأعظم من ذلك، ففي قدرة الخالق سبحانه أن يعيدكم حتى وإن كنتم من حجارة أو من حديد، وهي المادة التي ليس بها حياة في نظرهم.
وكأن الحق سبحانه يتحداهم بأبعد الأشياء عن الحياة، ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد؛ لأن الحديد أشد من الحجارة وهو يقطعها، فلو كنتم حجارة لأعدناكم حجارة، ولو كنتم حديداً لأعدناكم حديداً.


 

قديم 21-10-2011, 12:49 AM   #615
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 51

(أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا "51" )
قوله تعالى:

{أو خلقا مما يكبر في صدوركم .. "51"}
(سورة الإسراء)


أي: هاتوا الأعظم فالأعظم، وتوغلوا في التحدي والبعد عن الحياة، فأنا قادر على أن أهب له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها. وقوله:

{مما يكبر في صدوركم .. "51"}
(سورة الإسراء)


يكبر: أي يعظم من كبر يكبر. ومنه قوله تعالى:

{كبرت كلمة تخرج من أفواههم .. "5"}
(سورة الكهف)


أي:عظمت. والمراد: اختاروا شيئاً يعظم استبعاد أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فهما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فرضية الأمر إلى أن يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظم استبعاداً من الحجارة والحديد.
ونلاحظ في قوله تعالى:

{مما يكبر في صدوركم .. "51"}
(سورة الإسراء)


جاء هذا الشيء مبهماً؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلف فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مبهمة ليشيع المعنى في نفس كل واحد كل على حسب ما يرى.
بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه ـ عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام علي سرعة البديهة والتمرس في الفتيا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها.
دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول: الحديد أقوى. ومنهم من يقول: بل الحجارة. وآخر يقول: بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دقة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يقل: أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال: أشد جنود الله عشرة.
فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مستحضرة في ذهنه، مرتبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفرد أصابعه، وأخذ يعد هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعده جيداً.
قال: "أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهم".
فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى:

{أو خلقا مما يكبر في صدوركم .. "51"}
(سورة الإسراء)




 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:02 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا