المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 04-10-2011, 01:08 PM   #106
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 106

(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " 106")
ولكن ما هو السبب؟ السبب أن أهل الكتاب والمشركين لا يريدون خيرا للمؤمنين في دينهم؛ لأنهم أحسوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في زمنه خير مما جاء به موسى وبقى إلي زمن محمد صلى الله عليه وسلم .. وخير مما جاء به عيسى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننقص ما جاء به الرسل السابقون .. لكننا نؤكد أن الرسل السابقين جاءوا في أزمانهم بخير ما وجد في هذه الأزمان .. فكل رسالة من الرسالات التي سبقت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وجاءت لقوم محددين وزمن محدد .. واقرأ قول عيسى عليه السلام حينما بعث إلي بني إسرائيل كما يروي لنا القرآن الكريم:

{ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون "50" }
(سورة آل عمران)


فكأن عيسى عليه السلام جاء لينسخ بعض أحكام التوراة .. ويحل لبني إسرائيل بعض ما حرمه الله عليهم .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرسول الخاتم أعطى الخير كله؛ لأنه دينه للعالمين وباق إلي يوم القيامة. وهكذا نرى أن المؤمنين بالرسل كلما جاء رسول جديد كانوا ينتقلون من خير إلي خير .. وفيما تتفق فيه الرسالات كانوا ينتقلون إلي مثل هذا الخير .. وذلك فيما يتعلق بالعقائد، وإلي زيادة في الخير فيما يتعلق بمنهج الحياة .. هناك في رسالات السماء كلها أمور مشتركة لا فرق فيها بين رسول ورسول وهي قضية الإيمان بإله واحد أحد له الكمال المطلق .. سبحانه في ذاته، وسبحانه في صفاته، وسبحانه في أفعاله .. كل ذلك قدر الرسالات فيه مشترك .. ولكن الحياة في تطورها توجد فيها قضايا لم تكن موجودة ولا مواجهة في العصر الذي سبق .. فإذا قلنا إن رسالة بقيمتها العقائدية تبقى .. فإنها لا تستطيع أن تواجه قضايا الحياة التي ستأتي بها العصور التي بعدها فيما عدا الإسلام .. لأنه جاء دينا خاتما لا يتغير ولا يتبدل إلي يوم القيامة .. على أننا نجد من يقول وماذا عن قول الله سبحانه وتعالى:

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب "13" }
(سورة الشورى)


نقول إن هذا يأتي في شيء واحد .. يتعلق بالأمر الثابت في رسالات السماء وهو قضية قمة العقيدة والإيمان بالله الواحد .. أما فيما يتعلق بقضايا الحياة فإننا نجد أحكاما في هذه الحركة حسب ما طرأ عليها من توسعات .. ولذلك عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم أعطى أشياء يعالج بها قضايا لم تكن موجودة في عهد الرسل السابقين. يقول الله تبارك وتعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها" .. كلمة ننسخ معناها نزيل آية كانت موجودة ونأتي بآية أخرى بدلا منها .. كما يقال نسخت الشمس الظل .. أي أن الظل كان موجودا وجاءت الشمس فمحته وحلت هي مكانه .. ويقال نسخت الكتاب أي نقلته إلي صور متعددة، ونسخ الشيب الشباب أي أصبح الشاب شيخا.
وقوله تعالى "ننسها" لها معان متعددة .. قد يعني ذلك أن الله يجعل الإنسان يسهو ويغفل عنها .. فتضيع من ذاكرته أو يتركها إلي غيرها .. والعلماء اختلفوا في هذه المسألة .. وكان هذا الاختلاف لأن أحدهم يلحظ ملحظا وغيره يلحظ ملحظا آخر وكلاهما يريد الحق .. نأتي للنسخ في القرآن الكريم .. قوم قالوا لا نسخ في القرآن أبدا .. لماذا؟ لأن النسخ بداء على الله .. ما معنى البداء؟ هو أن تأتي بحكم ثم يأتي التطبيق فيثبت قصور الحكم عن مواجهة القضية فيعدل الحكم .. وهذا محال بالنسبة لله سبحانه وتعالى .. نقول لهم طبعا هذا المعنى مرفوض ومحال أن يطلق على الله تبارك وتعالى .. ولكننا نقول إن النسخ ليس بداء، وإنما هو إزالة الحكم والمجيء بحكم آخر .. ونقول لهم ساعة حكم الله الحكم أولا فهو سبحانه يعلم أن هذا الحكم له وقت محدود ينتهي فيه ثم يحل مكانه حكم جديد .. ولكن الظروف والمعاجلة يقتضيان أن يحدث ذلك بالتدريج .. وليس معنى ذلك أن الله سبحانه قد حكم بشيء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم .. إن هذا غير صحيح.
لماذا؟ .. لأنه ساعة حكم الله أولا كان يعلم أن الحكم له زمن أو يطبق لفترة ثم بعد ذلك ينسخ أو يبدل بحكم آخر. إذن فالمشروع الذي وضع هذا الحكم وضعه على أساس أنه سينتهي وسيحل محله حكم جديد .. وليس هذا كواقع البشر .. فأحكام البشر وقوانينهم تعدل لأن واقع التطبيق يثبت قصور الحكم عن مواجهة قضايا الواقع .. لأنه ساعة وضع الناس الحكم علموا أشياء وخفيت عنهم أشياء .. فجاء الواقع ليظهر ما خفى وأصبح الحكم لابد أن ينسخ أو يعدل .. ولكن الأمر مع الله سبحانه وتعالى ليس كذلك .. أمر الله جعل الحكم موقوتا ساعة جاء الحكم الأول. مثلا حين وجه الله المسلمين إلي بيت المقدس .. أكانت القضية عند الله أن القبلة ستبقى إلي بيت المقدس طالما وجد الإسلام وإلي يوم القيامة؟ ثم بدا له سبحانه وتعالى أن يوجه المسلمين إلي الكعبة؟ لا .. لم تكن هذه هي الصورة .. ولكن كان في شرع الله أن يتوجه المسلمون أولا إلي بيت المقدس فترة ثم بعد ذلك يتوجهون إلي الكعبة إلي يوم القيامة.
إذن فالواقع لم يضطر المشروع إلي أن يعدل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة .. نقول إنك لم تفهم عن الله .. "اتقوا الله حق تقاته" في الآية الأولى أو "فاتقوا الله ما استطعتم" في الآية الثانية .. أي الحالتين احسن؟ نقول إن العبرة بالنتيجة .. عندما تريد أن تقيم شيئا لابد أن تبحث عن نتيجته أولا. ولنقرب المعنى للأذهان سنضرب مثلا ولله المثل الأعلى .. نفرض أن هناك تاجرا يبيع السلع بربح خمسين في المائة .. ثم جاء تاجر آخر يبيع نفس السلع بربح خمسة عشر في المائة .. ماذا يحدث؟ سيقبل الناس طبعا على ذلك الذي يبيع السلع بربح خمسة عشر في المائة ويشترون منه كل ما يريدون، والتاجر الذي يبيع السلع بربح خمسين في المائة يحقق ربحا اكبر .. ولكن الذي يبيع بربح خمسة عشر في المائة يحقق ربحا أقل ولكن بزيادة الكمية المبيعة .. يكون الربح في النهاية اكبر.


 

قديم 04-10-2011, 01:08 PM   #107
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 107

(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" 107")
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا أن هناك آيات نسخت في القرآن .. أراد أن يوضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في كونه يفعل ما يشاء .. ولذلك بدأ الآية الكريمة: "ألم تعلم" .. وهذا التعبير يسمى الاستفهام الاستنكاري أو التقريري .. لأن السامع لا يجد إلا جوابا واحدا بأنه يقر ما قاله الله تبارك وتعالى .. ويقول نعم يا رب أنت الحق وقولك الحق.
قوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض" .. الملك يقتضي مالكا ويقتضي مملوكا .. ويقتضي قدرة على استمرار هذا الملك وعدم زواله .. فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه يقدر ويملك المقدرة .. والإنسان ليست له قدرة التملك ولا المقدرة على استبقاء ما يملكه .. والإنسان لا يملك الفعل في الكون .. إن أراد مثلا أن يبني عمارة قد لا يجد الأرض .. فإن وجد الأرض قد لا يجد العامل الذي يبني .. فإن وجده قد لا يجد مواد البناء .. فإن وجد هذا كله قد تأتي الحكومة أو الدولة وتمنع البناء على هذه الأرض .. أو أن تكون الأرض ملكا لإنسان آخر فتقام القضايا ولا يتم البناء.
والحق سبحانه وتعالى يقول: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض" .. أي أن كل شيء في الوجود هو ملك لله وهو يتصرف بقدرته فيما يملك .. ولذلك عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المدينة .. كان اليهود يملكون المال ولهم معرفة ببعض العلم الدنيوي لذلك سادوا المدينة .. وبدأوا يمكرون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين .. والله تبارك وتعالى طمأن رسوله بأن طلاقة القدرة في الكون هي لله وحده .. وأنه إذا كان لهم ملك فإنه لا يدوم لأن الله ينزع الملك ممن يشاء ويعطيه لمن يشاء .. ولذلك حينما يأتي يوم القيامة ويهلك الله الأرض ومن عليها .. يقول سبحانه:

{لمن الملك اليوم }
(من الآية 16 سورة غافر)


ويرد جل جلاله بشهادة الذات للذات فيقول:

{لله الواحد القهار }
(من الآية 16 سورة غافر)


ومادام الله هو المالك وحده .. فإنه يستطيع أن ينزع من اليهود وغيرهم من الدنيا كلها ما يملكونه .. ويحدثنا العلماء أن العسس وهم الجنود الذين يسيرون ليلا لتفقد أحوال الناس وجدوا شخصا يسير ليلا .. فلما تقدموا منه جرى فجروا وراءه إلي أن وصل إلي مكان خرب ليستتر فيه .. تقدم العسس وأمسكوا به وإذا بهم يجدون جثة القتيل .. فأخذوه ليحاكموه فقال لهم أمهلوني لأصلي ركعتين لله .. فأمهلوه فصلى ثم رفع يديه إلي السماء وقال اللهم إنك تعلم أنه لا شاهد على براءتي إلا أنت .. وأنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة فأسألك ذلك في نفسك .. فبينما هم كذلك إذا أقبل رجل فقال .. أنا قاتل هذا القتيل وأنا أقر بجريمتي .. فتعجب الناس وقالوا لماذا تقر بجريمتك ولم يرك أحد ولم يتهمك أحد .. فقال لهم والله ما أقررت إنما جاء هاتف فأجرى لساني بما قلت .. فلما أقر القاتل بما فعل وقام ولى المقتول وهو أبوه فقال .. اللهم إني أشهدك إني قد أعفيت قاتل ابني من دينه وقصاصه.
انظر إلي طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى .. القاتل أراد أن يختفي ولكن انظر إلي دقة السؤال من السائل أو المتهم البريء .. وقد صلى ركعتين لله .. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أنه إذا حزبنا أمر قمنا إلي الصلاة فليس أمامنا إلا هذا الباب .. وبعد أن صلى سأل الله أنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة ولا يشهد ببراءتي أحد إلا أنت فأسألك ذلك في نفسك وبعد ذلك كان ما كان. وهذه القصة تدلنا على أننا في قبضة الله .. أردنا أو لم نرد .. بأسباب أو بغير أسباب .. لماذا؟ .. لأن الله له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير .. وقوله تعالى: "وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" .. الولي هو من يواليك ويحبك .. والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي .. الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم ولي ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم.


 

قديم 04-10-2011, 01:09 PM   #108
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 108

(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" 108")
ثم ينقل الحق جل جلال المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم .. وينقلهم إلي سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" .. الحق يقول للمؤمنين أم تريدون أن تسألوا رسول الله كما سأل اليهود موسى .. ولم يشأ الحق أن يشبه المسلمين باليهود فقال: "كما سئل موسى من قبل" .. وكان من الممكن أن يقول أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل اليهود موسى .. ولكن الله لم يرد أن يشبه اليهود بالمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذا تكريم من الله للمؤمنين بأن ينزههم أن يتشبهوا باليهود .. وقد سأل اليهود موسى عليه السلام وقالوا كما يروي لنا القرآن الكريم:

{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا "153" }
(سورة النساء)


وقد سأل أهل الكتاب والكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي لنا القرآن الكريم:

{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا "90"}
(سورة الإسراء)


{أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا "92" أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا "93" }
(سورة الإسراء)


الله تبارك وتعالى يهيب بالمؤمنين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كما سأله أهل الكتاب والكفار ويقول لهم أن اليهود قد سألوا موسى اكبر من ذلك .. فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم .. وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم .. بل كانت ظاهرة لهم واضحة .. دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته .. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .. أي لم تكفهم هذه المعجزات .. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار .. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنما يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها.
وقوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" .. قلنا أن الباء في قوله تعالى: "بالإيمان" تدخل دائما على المتروك .. كأن تقول اشتريت هذا بكذا درهم .. يعني تركت الدراهم وأخذت البضاعة .. ومعناها أن الكفر مأخوذ والإيمان متروك .. فقد أخذ اليهود الكفر وتركوا الإيمان حين قالوا لموسى: "أرنا الله جهرة" .. وقوله سبحانه: "فقد ضل سواء السبيل". ما هو الضلال؟ .. هو أن تسلك سبيلا لا يؤدي بك إلي غايتك .. "وسواء السبيل" .. السواء هو الوسط .. و"سواء السبيل" .. هو وسط الطريق .. والله تبارك وتعالى يقول:

{فاطلع فرآه في سواء الجحيم "55" }
(سورة الصافات)


أي في وسط الجحيم .. أي أنه يكون بعيدا عن الحافتين بعدا متساوياً .. وسواء الطريق هو وسطه .. والسبيل أو الطريق كان قبل استخدام التكنولوجيا الحديثة تكون أطرافه وعرة من جنس الأرض قبل أن تمهد .. أي لا تصلح للسير .. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد أو في وسط الطريق لأنه أكثر أمانا لهم .. فهم فيه لن يضلوا يمينا ولا يسارا بل يسيروا على منهج الله والإيمان .. وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إلي الكفر.


 

قديم 04-10-2011, 01:09 PM   #109
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 109

(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير " 109")
هذه الآية الكريمة تتناول أحداثا وقعت بعد غزوة أحد .. وفي غزوة أحد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من الرماة ألا يغادروا مواقعهم عند سفح الجبل سواء انتصر المسلمون أو انهزموا .. فلما بدأت بوادر النصر طمع الرماة في الغنائم .. فخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزمهم الله .. ولكن الكفار لم يحققوا نصر لأن النصر هو أن تحتل أرضا وتبقى. هؤلاء الكفار بعد المعركة انطلقوا عائدين إلي مكة .. حتى أن المسلمين عندما خرجوا للقائهم في اليوم التالي لم يجدوا أحداً .. يهود المدينة استغلوا هذا الحديث .. وعندما التقوا بحذيفة بن اليمان وطارق وغيرهما .. قالوا لهم إن كنتم مؤمنين حقا لماذا انهزمتم فارجعوا إلي ديننا واتركوا دين محمد .. فقال لهم حذيفة ماذا يقول دينكم في نقض العهد؟ .. يقصد ما تقوله التوراة في نقض اليهود ولعهودهم مع الله ومع موسى .. ثم قال أنا لن انقض عهدي مع محمد ما حييت .. أما عمار فقال .. لقد آمنت بالله ربا وآمنت بمحمد رسولا وآمنت بالكتاب إماما وآمنت بالكعبة قبلة وآمنت بالمؤمنين إخوة وسأظل على هذا ما حييت.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله حذيفة وطارق بن ياسر فسر بذلك ولكن اليهود كانوا يستغلون ما حدث في أحد ليهزموا العقيدة الإيمانية في قلوب المسلمين كما استغلوا تحويل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة ليهزموا الإيمان في القلوب وقالوا إذا كانت القبلة تجاه بيت المقدس باطلة فلماذا اتجهتم إليها، وإذا كانت صحيحة فلماذا تركتموها، فنزل قول الله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم". انظر إلي دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: "من أهل الكتاب" .. فكأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم .. ولكن كانت هناك قلة تفكر في الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام .. ولو أن الله جل جلاله حكم على كل أهل الكتاب لسد الطريق أمام هذه القلة أن يؤمنوا .. أي أن أهل الكتاب من اليهود يحبون أن يردوكم عن دينكم وهؤلاء هم الكثرة .. لأن الله تعالى قال: "ود كثير من أهل الكتاب".
وقوله تعالى: "من بعد إيمانكم كفارا" .. كفارا بماذا؟ .. بما آمنتم به أو بما يطلبه منكم دينكم .. وهم لا يفعلون ذلك عن مبدأ أو عقيدة أو لصالحكم ولكن: "حسدا من عند أنفسهم" .. فدينهم يأمرهم بعكس ذلك .. يأمرهم أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .. ولذلك فهم لا ينفذون ما تأمرهم أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .. ولذلك فهم لا ينفذون ما تأمرهم به التوراة حينما يرفضون الإيمان بالإسلام .. والذي يدعوهم إلي أن يحاولوا ردكم عن دينكم هو الحسد .. والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره .. وقوله تعالى: "حسدا من عند أنفسهم" .. أي هذه المسألة من ذواتهم لأنهم يحسدون المسلمين إخوانا متحابين متكاتفين مترابطين .. بينما هم شيع وأحزاب .. وهناك حسد يكون من منطق الدين وهذا مباح ..

<ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس">

فكأن الحسد حرام في غير هاتين الحالتين .. فكأن هؤلاء اليهود يحسدون المسلمين على دينهم .. وهذا الحسد من عند أنفسهم لا تقره التوراة ولا كتبهم .. وقوله سبحانه: "من بعد ما تبين لهم أنه الحق" .. أي بعد ما تأكدوا من التوراة من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم.
وقوله تعالى: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" .. ما هو العفو وما هو الصفح؟ .. يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته .. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله .. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء .. والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك .. وقوله تعالى: "حتى يأتي الله بأمره" .. أن هذا الوضع بالنسبة لليهود وما يفعلونه في المؤمنين لن يستمر لأن الله سبحانه قد أعد لهم أمرا ولكن هذا الأمر لم يأت وقته ولا أوانه .. وعندما يأتي سيتغير كل شيء .. لذلك يقول الله للمؤمنين لن تظلوا هكذا .. بل يوم تأخذونهم فيه بجرائمهم ولن يكون هذا اليوم بعيدا .. عندما يقول الله سبحانه: "حتى يأتي الله بأمره" .. فلابد أن أمر الله آت .. لأن هذه قضية تتعلق بجوهر الإيمان كله .. فلا يقال أبدا حتى يأتي الله بأمره ثم لا يجئ هذا الأمر .. بل أمر الله بلا شك نافد وسينصركم عليهم .. وقوله تعالى: "إن الله على كل شيء قدير" .. أن الله له طلاقة القدرة في ملكه .. ولذلك إذا قال أنه سيأتي بأمر فسيتحقق هذا الأمر حتما وسيتم .. ولا توجد قدرة في هذا الكون إلا قدرة الله سبحانه .. ولا قوة إلا قوته جل جلاله .. ولا فعل إلا ما أراد.


 

قديم 04-10-2011, 01:09 PM   #110
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 110

(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير " 110")
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن أقصى أماني أهل الكتاب أن يردونا كفارا، وأن هذا حسدا منهم. أراد الله تبارك وتعالى أن يبين لنا ما الذي يكرهه أهل الكتاب .. وقال إن الذي يتعبهم ميزان العدل والحق الذي نتبعه .. منهج الله سبحانه وتعالى .. ولذلك يأمر الله المؤمنين أن يثبتوا ويتمسكوا بالإيمان، وأن يقبلوا على التكليف فهذا احسن رد عليهم .. والتكاليف التي جاء بها الإسلام منها تكليفات لا تتطلب إلا وقتاً من الزمن وقليلا من الفعل كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
إن شهادة لا إله إلا الله تقال مرة في العمر .. والزكاة والصوم مرة كل عام .. والحج للمستطيع مرة في العمر .. ولكن هناك من العبادات ما يتكرر كل يوم ليعطي المؤمن شحنة اليقين والإيمان ويأخذه من دنياه بالله اكبر خمس مرات في اليوم .. وهذه هي العبادة التي لا تسقط أبدا .. والإنسان سليم والإنسان مريض .. فالمؤمن يستطيع أن يصلي واقفا وأن يصلي جالسا وأن يصلي راقدا .. وأن يجري مراسم الصلاة على قلبه .. لذلك كانت هذه أول عبادة تذكر في قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة" أي والتفتوا إلي نداءات ربكم للصلاة .. وعندما يرتفع صوت المؤذن بقوله الله اكبر فهذه دعوة للإقبال على الله .. إقبال في ساعة معلومة لتقفوا أمامه سبحانه وتعالى وتكونوا في حضرته يعطيكم الله المدد .. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر صلى).
ومعنى حزبه أمر .. أي ضاقت به أسبابه فلم يجد مخرجا ولا طريقا إلا أن يلجأ إلي الله .. إذا حدث هذا يتوضأ الإنسان ويصلي ركعتين غير الفريضة .. ثم يدعو ما يشاء فيفرج الله كربه .. إذن: "فأقيموا الصلاة" هي الرد المناسب على كل محاولاتهم ليسلبوكم دينكم .. ذلك أن هذا التكليف المقرر لإعلان الولاء الإيماني لله كل يوم خمس مرات .. نترك كل ما في الدنيا ونتجه إلي الله بالصلاة .. إنها عماد الدين وأساسه. وقوله تعالى: "وآتوا الزكاة" .. إيتاء الزكاة لا يحدث إلا إذا كان لديهم ما هو زائد عن حاجتك .. فكأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نضرب في الأرض لنكسب حاجتنا وحاجة من نعول ونزيد .. وبذلك يخرج المسلمون من سيطرة اليهود الاقتصادية التي يستذلون بها المسلمين.
فالمؤمن حين يأتي الزكاة معناه أن حركته اتسعت لتشمل حاجته وحاجة غيره .. ولذلك حتى الفقير يجد في الزائد في أموال المسلمين ما يكفي حاجته .. فلا يذهب إلي اليهودي ليقترض بالربا .. ولذلك فالله سبحانه وتعالى يريد أن يتكامل المسلمون .. بحيث تكفي أموالهم غنيهم وفقيرهم والقادر على العمل منهم وغير القادر والله تبارك وتعالى يزيد أموال المسلمين بأكثر مما يخرج منها من زكاة ..

<ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه">

وقد سميت "الزكاة" لأنها في ظاهرها نقص وفي حقيقتها زيادة .. والربا ظاهرة زيادة وحقيقته نقص .. وفي ذلك يقول الله جل جلاله:

{يمحق الله الربا ويربي الصدقات}
(من الآية 276 سورة البقرة)


ثم يقول الحق سبحانه: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجده عند الله" .. إذن لابد أن يطمئن المؤمن لأن حركة حياته هي ثواب وأجر عند الله تبارك وتعالى .. فإذا صلى فله أجر وإذا زكى فله أجر، وإذا تصدق فله أجر، وإذا صام فله أجر، وإذا حج فله أجر، كل ما يفعله من منهج الله له أجرا بقدر العمل، بل أضعاف العمل .. واقرأ قوله تعالى:

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم "261" }
(سورة البقرة)


وهكذا نعرف أن كل حركة في منهج الله ليس فقط لها أجر عند الله سبحانه وتعالى .. ولكنه أجر مضاعف أضعافا مضاعفة .. وهو أجر ليس بقدرات البشر ولكنه بقدرة الله سبحانه .. ولذلك فهو ليس مضاعفا فقط في عدد المرات ولكنه مضاعف في القدرة أيضا .. فكأن كل إنسان مؤمن لا أجر له في الآخرة .. وإذا أعطى في الدنيا يعطي عطاء المثل .. ولكن المؤمن وحده له عطاء الآخرة أضعافا مضاعفة .. وهو عطاء ليس زائلا كعطاء الدنيا ولكنه باق وخالد.والخير الذي تفعله لن تدخره عندك أو عند من قد ينكره .. ويقول لا شيء لك عندي ولكن الله سيدخره لك .. فانظر إلي الاطمئنان والعمل في يد الله الأمينة، وفي مشيئته التي لا يغفل عنها شيء، وفي قدرته التي تضاعف أضعافا مضاعفة .. وتجده في الوقت الذي تكون في أحوج اللحظات إليه وهو وقت الحساب. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: "والله بما تعملون بصير" .. أي لا تعتقد أن هناك شيئا يخفى على الله، أو أن أحدا يستطيع أن يخدع الله؛ فالله سبحانه وتعالى بصير بكل شيء .. ليس بالظاهر منك فقط .. ولكن بما تخفيه في نفسك ولا تطلع عليه أحدا من خلق الله، إنه يعلم كل شيء واقرأ قوله سبحانه وتعالى:

{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء"38"}
(سورة إبراهيم)


وهكذا نطمئن إلي أن الله بصير بكل شيء، وانظر إلي قوله جل جلاله: "يعملون" لتفهم أهمية العمل.


 

قديم 04-10-2011, 01:10 PM   #111
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 111

(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " 111")
بعد أن بين الحق تبارك وتعالى كيف أن كل عمل في منهج الله له أجر، وأجر باق وثابت ومضاعف عند الله ومحفوظ بقدرة الله سبحانه .. أراد أن يرد على ادعاءات اليهود والنصارى الذين يحاولون أن يثيروا اليأس في قلوب المؤمنين بالكذب والإحباط علهم ينصرفون عن الإسلام .. لذلك فقد أبلغنا الله سبحانه بما افتروه. واقرأ قوله تعالى: "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" .. وفي هذه الآية الكريمة يظهر التناقض بين أقوال اليهود والنصارى .. ولقد أوردنا كيف أن اليهود قد قالوا "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا" .. وقالت النصارى: "لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا" .. والله سبحانه وتعالى يفضح التناقض في آية ستأتي في قوله تبارك وتعالى:

{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }
(من الآية 113 سورة البقرة)


ومعنى ذلك أنهم تناقضوا في أقوالهم، فقالت النصارى: إنهم سيدخلون الجنة وحدهم، وقالت اليهود القول نفسه. ثم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا .. ثم قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء. ويقول الناس إذا كنت كذوبا فكن ذكورا؛ ذلك أن الذي يكذب تتناقض أقواله لأنه ينسى مادام قد قال غير الحقيقة، ولذلك تجد أن المحقق أو القاضي يظل يسأل المتهم أسئلة مختلفة .. حتى تتناقض أقواله فيعرف أنه يكذب .. فأنت إذا رويت الواقعة كما حدثت فإنك ترويها مائة مرة دون أي خلاف في التفاصيل. ولكنك إذا كذبت تتناقض مع نفسك .. والله سبحانه وتعالى يقول: "تلك أمانيهم" .. ما هي الأماني؟ .. هي أن تعلق نفسك بأمنية وليس لهذه الأمنية سند من الواقع يوصلك إلي تحقيق هذه الأمنية .. ولكن إذا كان التمني قائما على عمل يوصلك إلي تحقيق الأمنية فهذا شيء آخر.
بعض الناس يقول التمني وإن لم يتحقق فإنه يروح عن النفس .. فقد ترتاح النفس عندما تتعلق بأمل كاذب وتعيش أياما في نوع من السعادة وإن كانت سعادة وهمية .. نقول إن الصدمة التي ستلحق بالإنسان بعد ذلك ستدمره .. ولذلك لا يكون في الكذب أبدا راحة .. فأحلام اليقظة لا تتحقق لأنها لا تقوم على أرضية من الواقع وهي لا تعطي الإنسان إلا نوعا من بعد عن الحقيقة .. ولذلك يقول الشاعر:
منى إن تكن حقاً تكن احسن المنى وإلا فقد عشا بها زمنا رغدا
يعني الأماني لو كانت حقيقة أو تستند إلي الحقيقة فإنها احسن الأماني لأنها تعيش معك .. فإن لم تكن حقيقة يقول الشاعر:
فقد عشنا بها زمنا رغدا
أماني من ليل حسان كأنما سقتنا بها ليلى على ظمأ بردا
وقوله تعالى: "تلك أمانيهم" تبين لنا أن الأماني هي مطامع الحمقى لأنها لا تتحقق .. والحق سبحانه يقول: "قل هاتوا برهانكم" .. وما هو البرهان؟ .. البرهان هو الدليل .. ولا تطلب البرهان إلا من إنسان وقعت معه في جدال واختلفت وجهات النظر بينك وبينه .. ولا تطلب البرهان إلا إذا كنت متأكداً أن محدثك كاذب .. وأنه لن يجد الدليل على ما يدعيه. هب أن شخصا ادعى أن عليك مالا له .. وطلب منك أن تعيده إليه وأنت لم تأخذ منه مالا .. في هذه الحالة تطلب منه تقديم الدليل .. (فالكمبيالة) التي كتبتها له أو الشيك أو إيصال الأمانة .. وأضعف الإيمان أن تطلب منه شهودا على أنك أخذت منه المال .. ولكن قبل أن تطالبه بالدليل .. يجب أن تكون واثقا من نفسك وأنه فعلا يكذب وأنك لم تأخذ منه شيئا.
إذن فقوله الحق سبحانه: "هاتوا برهانكم" .. كلام من الله يؤكد أنهم كاذبون .. وأنهم لو أرادوا أن يأتوا بالدليل .. فلن يجدوا في كتب الله ولا في كلام رسله ما يؤكد ما يدعونه، وإن أضافوه يكن هذا افتراء على الله ويكن هناك الدليل الدامغ على أن هذا ليس من كلام الله ولكنه من افتراءاتهم. إذن فليس هناك برهان على ما يقولونه .. ولو كان هناك برهان ولو كان في هذا الكلام ولو جزءا من الحقيقة .. ما كان الله سبحانه وتعالى يطالبهم بالدليل. إذن لا تقول هاتوا برهانكم إلا إذا كنت واثقا أنه لا برهان على ما يقولون؛ لأنك رددت الأمر إليه فيما يدعيه .. وهو يحب أن يثبته ويفعل كل شيء في سبيل الحصول على برهان .. ولا يمكن أن يقول الله: "هاتوا برهانكم" .. إلا وهو سبحانه يعلم أنهم يكذبون .. ولذلك قال: "إن كنتم صادقين" .. أي إن كنتم واثقين من أن ما تقولونه صحيح؛ لأن الله يعرف يقينا أنكم تكذبون.


 

قديم 04-10-2011, 01:10 PM   #112
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 112

(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" 112")
بعد أن بين لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة .. فقال: "بلى" .. وعندما تقرأ: "بلى" اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي .. فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دين .. إذا قلت له نعم فقد صدقت أنه ليس عليه دين .. ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه دينا وأنه كاذب فيما قاله .. إذن بلى تأتي جوابا لتثبيت نفي ما تقدم. هم قالوا "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" .. عندما يقول الله لهم بلى فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح .. وأنه سيدخلها غير هؤلاء .. وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى .. أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة .. لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة .. واقرأ قوله جل جلاله:

{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين "85" }
(سورة آل عمران)


لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى .. أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى .. لأن القرآن أزلي .. ما معنى أزلي؟ .. أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة .. فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى .. فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان في هذا تجاوز .. لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحسن دينه ومات قبل أن يدرك محمدا عليه الصلاة والسلام .. فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازى بحسن عمله .. وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته .. وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يبعث محمد عليه الصلاة والسلام .. أهذا لن يدخل الجنة؟ .. لا .. يدخل وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء .. ولكن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة .. بل ولن يراها .. ولذلك جاء كلام الله دقيقا لم يظلم أحدا من خلقه.
إذن فقوله تعالى: "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن" .. أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجه لله وهو محسن .. فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقا يظهر بغير ما يبطن .. نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين .. لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم. قوله تعالى: "من أسلم وجهه لله" تدلنا على أن كل شيء أسلم لله لأن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان .. فيه التمييز وفيه السمة وفي التشخص وهو أعلى ما في الجسم .. وحينما عرفوا الإنسان قالوا حيوان ناطق أي حيوان مفكر .. وقال بعضهم حيوان مستوي القامة يعني قامته مرفوعة .. والقامة المرفوعة على بقية الجسم هي الوجه .. والإنسان مرفوع على بقية أجناس الأرض .. إذن هو مرفوع على بقية الأجناس ووجهه مرفوع عليه .. فإذا أسلم وجهه لله يكون قد أسلم أشرف شيء فيه لله .. ولذلك قيل .. أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد .. لماذا؟ .. لأنه جاء بالوجه الذي رفعه الله به وكرمه .. وجعله مساويا لقدميه ليستوي أكمل شيء في بأدنى شيء .. فلم يبقى عنده شيء يختال به على الله.
الحق سبحانه وتعالى يقول: "فله أجره عند ربه" .. كلمة "أجره عند ربه" .. دلت على أن الله لم يجعلنا مقهورين .. ولكنه كلفنا وجعلنا مختارين أن نفعل أو لا نفعل .. فإن فعلنا فلنا أجر .. ولأن التكليف من الله سبحانه وتعالى فالمنطقي أن يكون الأجر عند الله .. وألا يوجد خوف أو حزن .. لأن الخوف يكون من شيء سيقع .. والحزن يأتي على شيء قد وقع .. ولا هذه ولا تلك تحدث عندما يكون أجرنا عند الله. إن الإنسان حين يكون له حق عند مساويه .. فربما يخاف أن ينكر المساوي هذا الحق أو يطمع فيه، أو يحتاج إليه فيدعي عدم أحقيته فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين .. ولذلك فهو لا يطمع فيما في أيدنا من خير لأنه من عنده .. ولا يطمع فيما معنا من مال لأن عنده خزائن السماوات والأرض.
الله سبحانه لا ينكر حقا من حقوقنا لأنه يعطينا من فضله ويزيدنا .. ولذلك فإن ما عند الله لا خوف عليه بل هو يضاعف ويزداد .. وما عند الله لا حزن عليه .. لأن الإنسان يحزن إذا فاته خير .. ولكن ما عند الله باق لا يفوتك ولا يفوته .. فلا يوجد شيء عند الله سبحانه وتعالى تحزن عليه لأنه فات .. ولذلك كان قول الحق سبحانه وتعالى: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .. أدق ما يمكن أن يقال عن حالة المؤمنين في الآخرة .. أنهم يكونون فرحين بما عند الله لا خوف عندهم ولا حزن.


 

قديم 04-10-2011, 01:11 PM   #113
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 113

(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " 113")
نقول إن أصدق ما قاله اليهود والنصارى .. هو أن كل طائفة منهم اتهمت الأخرى بأنها ليست على شيء .. فقال اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء .. والعجيب إن الطائفتين أهل كتاب .. اليهود أهل كتاب والنصارى أهل كتاب .. ومع ذلك كل منهما يتهم الآخر بأنه لا إيمان له وبذلك تساوى مع المشركين.
الذين يقولون إن أهل الكتاب ليسوا على شيء .. أي أن المشركين يقولون اليهود ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء .. واليهود يقولون المشركون ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء .. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" .. وبذلك أصبح لدينا ثلاث طوائف يواجهون الدعوة الإسلامية .. طائفة لا تؤمن بمنهج سماوي ولا برسالة إلهية وهؤلاء هم المشركون .. وطائفتان لهم إيمان ورسل وكتب هم اليهود والنصارى .. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" .. أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء عن منهج السماء .. اتحدوا في القول مع اليهود والنصارى وأصبح قولهم واحدا.
وكان المفروض أن يتميز أهل الكتاب الذين لهم صلة بالسماء وكتب نزلت من الله ورسل جاءتهم للهداية .. كان من المفروض أن يتميزوا على المشركين .. ولكن تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون .. وهذا معنى قوله تعالى: "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" .. ومادامت الطوائف الثلاث قالوا على بعضهم نفس القول .. يكون حجم الخلاف بينهم كبيرا وليس صغيرا .. لأن كل واحد منهم يتهم الآخر أنه لا دين له.
هذا الخلاف الكبير من الذي يحكم فيه؟ لا يحكم فيه إلا الله .. فهو الذي يعلم كل شيء .. وهو سبحانه القادر على أن يفصل بينهم بالحق .. ومتى يكون موعد هذا الفصل أو الحكم؟ أهو في الدنيا؟ لا .. فالدنيا دار اختيار وليست دار حساب ولا محاسبة ولا فصل في قضايا الإيمان .. ولذلك فإن الحكم بينهم يتم يوم القيامة وعلى مشهد من خلق الله جميعا. والحق سبحانه وتعالى يقول: "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" .. ومعنى الحكم هنا ليس هو بيان المخطئ من المصيب فالطوائف الثلاث مخطئة .. والطوائف الثلاث في إنكارها للإسلام قد خرجت عن إطار الإيمان .. ويأتي الحكم يوم القيامة ليبين ذلك ويواجه المخالفين بالعذاب.


 

قديم 04-10-2011, 01:11 PM   #114
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 114

(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم " 114")
فالحق جل جلاله بعد أن بين لنا موقف اليهود والنصارى والمشركين من بعضهم البعض ومن الإسلام، وكيف أن هذه الطوائف الثلاث تواجه الإسلام بعداء ويواجه بعضها البعض باتهامات .. فكل طائفة منها تتهم الأخرى أنها على باطل .. أراد أن يحذرهم تبارك وتعالى من الحرب ضد الإسلام ومحاربة هذا الدين فقال: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" .. مساجد العبودية كما بينا .. لأنك تضع أشرف شيء فيك وهو وجهك على الأرض خضوعا لله وخشوعا له.
قبل الإسلام كان لا يمكن أن يصلي أتباع أي دين إلا في مكان خاص بدينهم .. مكان مخصص لا تجوز الصلاة إلا فيه .. ثم جاء الله بالإسلام فجعل الأرض كلها مسجدا وجعلها طهورا .. ومعنى أن تكون الأرض كلها مسجدا هو توسيع على عباد الله في مكان التقائهم بربهم وفي أماكن عبادتهم له حتى لا تصح الصلاة إلا فيه .. وأنت إذا أردت أن تصلي ركعتين لله بخلاف الفرض .. مثل صلاة الشكر أو صلاة الاستخارة أو صلاة الخوف .. أو أي صلاة من السنن التي علمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإنك تستطيع أن تؤديها في أي وقت .. فكأنك تلتقي بالله سبحانه أين ومتى تحب.
ومادام الله تبارك وتعالى أنعم على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بأن جعل لم الأرض مسجدا طهورا فإنما يريد أن يوسع دائرة التقاء العباد بربهم ..

<ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة وبعثت إلي الناس عامة">

ولكن لماذا خص الله أمة محمد بهذه النعمة؟ لأن الإسلام جاء على موعد مع ارتقاءات العقل وطموحات الدنيا .. كلما ارتقى العقل في علوم الدنيا كشف قوانين وتغلب على عقبات .. وجاء بمبتكرات ومخترعات تفتن عقول الناس .. وتجذبهم بعيدا عن الدين فيعبدون الأسباب بدلا من خالق الأسباب.
يريد الحق تبارك وتعالى أن يجعل عبادتهم له ميسرة دائما حتى يعصمهم من هذه الفتنة .. وهو جل جلاله يريدنا حين نرى التليفزيون مثلا ينقل الأحداث من أقصى الأرض إلي أقصاها ومن القمر إلي الأرض في نفس لحظة حدوثها .. أن نسجد لله على نعمه التي كشف لنا عنها في أي مكان نكون فيه .. فخصائص الغلاف الجوي موجودة في الكون منذ خلق الله السماوات والأرض .. لم يضعها أحد من خلق الله في كون الله هذه الأيام .. ولكنها خلقت مع خلق الكون .. وشاء الله ألا ندرك وجودها ونستخدمها إلا هذه الأيام .. فلابد أن نسجد لله شكرا على نعمه التي كشفت لنا أسرارا في الكون لم نكن نعرفها .. وهذه الأسرار تبين لنا دقة الخلق وتقربنا إلي قضايا الغيب.
فإذا قيل لنا أن يوم القيامة سيقف خلق الله جميعا وهم يشاهدون الحساب وإن كل واحد منهم سيرى الحساب لحظة حدوثه .. لا يتعجب ونقول هذا مستحيل .. لأن أحداث العالم الهامة نراها الآن كلها لحظة حدوثها ونحن في منتهى الراحة .. ونحن جالسون في منازلنا أمام التليفزيون .. أي أننا نراها جميعا في وقت واحد دون جهد .. فإذا كانت هذه هي قدرات البشر للبشر .. فكيف بقدرات خالق البشر للبشر؟.
عندما نرى أسرار قوانين الله في كونه .. لابد أن نسجد لعظمة الخالق سبحانه وتعالى، الذي وضع كل هذا العلم والإعجاز في الكون .. وهذا السجود يقتضي أن تكون الأرض كلها مساجد حتى يمكنك وأنت في مكانك أن تسجد لله شكرا .. ولا تضطر للذهاب إلي مكان آخر قد يكون بعيدا أو الطريق إليه شاقا فينسيك هذا شكر الله والسجود له .. فالله سبحانه وتعالى شاء أن يوسع على المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة الالتقاء بربهم؛ لأن هناك أشياء ستأتي الرسالة المحمدية في موعد كشفها لخلق الله .. وكلما انكشف سر من أسرار الوجود اغتر الإنسان بنفسه .. ومادام الغرور قد دخل إلي النفس البشرية .. فلابد أن يجعل الله في الكون ما يعدل هذا الغرور.
لقد كانت الأمور عكس ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .. كانت الأمور فطرية فإذا امتنعت الأمطار ونضبت العيون والآبار .. لم يكن أمامها إلا أن يتوجهوا إلي السماء بصلاة الاستسقاء .. وكذلك في كل أمر يصعب عليهم مواجهته .. ولكن الآن بعد أن كشف الله لخلقه عن بعض أسراره في كونه .. أصبحت هناك أكثر من وسيلة يواجه بها الإنسان عددا من أزمات الكون .. هذه الوسائل قد جعلت البشر يعتقدون أنهم قادرون على حل مشكلاتهم .. بعيدا عن الله سبحانه وتعالى وبجهودهم الخاصة .. فبدأ الاعتماد على الخلق بدلا من الاعتماد على الحق .. ولذلك نزل قول الحق سبحانه وتعالى:

{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم "35" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}
(من الآية 35 ومن الآية 36 سورة النور)


ما هي هذه البيوت التي يرى فيها الناس نور الله تبارك وتعالى؟ هي المساجد .. فعمار المساجد وزوارها الدائمون على الصلاة فيها هم الذين يرون نور الله .. فإذا أتى قوم يجترئون عليها ويمنعون أن يذكر اسم الله فيها .. فمعنى ذلك أن المؤمنين القائمين على هذه المساجد ضعفاء الإيمان ضعفاء الدين تجرأ عليهم أعداؤهم .. لأنهم لو كانوا أقوياء ما كان يجرؤ عدوهم على أن يمنع ذكر اسم الله في مساجد الله .. أو أن يسعى إلي خرابها فتهدم ولا تقام فيها صلاة الجمعة .. ولكن ساعة يوجد من يخرب بيتا من بيوت الله .. يهب الناس لمنعه والضرب على يده يكون الإيمان قويا .. فإن تركوه فقد هان المؤمنون على عدوهم .. لماذا؟ لأن الكافر الذي يريد أن يطفئ مكان إشعاع نور الله لخلقه .. يعيش في حركة الشر في الوجود التي تقوى وتشتد كلما استطاع غير المؤمنين أن يمنعوا ذكر اسم الله في بيته وأن يخربوه.
وقول الحق سبحانه وتعالى: "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" .. أي أن هؤلاء الكفار ما كان يصح لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين أن يفتك بهم المؤمنون من أصحاب المسجد والمصلين فيه .. فإذا كانوا قد دخلوا غير خائفين .. فمعنى ذلك أن وازع الإيمان في نفوس المؤمنين قد ضعف. قوله تعالى: "ومن أظلم" .. معناه أنه لا يوجد أحد أظلم من ذلك الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه .. أي أن هذا هو الظلم العظيم .. ظلم القمة .. وقوله تعالى: "وسعى في خرابها" .. أي في إزالتها أو بقائها غير صالحة لأداء العبادة .. والسعي في خراب المسجد هو هدمه.
ويختم الحق سبحانه الآية الكريمة بقولة: "لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم" .. أي لن يتركهم الله في الدنيا ولا في الآخرة .. بل يصيبهم في الدنيا خزي .. والخزي هو الشيء القبيح الذي تكره أن يراك عليه الناس .. قوله تعالى: "لهم في الدنيا خزي" .. هذا مظهر غيرة الله على بيوته .. وانظر إلي ما أذاقهم الله في الدنيا بالنسبة ليهود المدينة الذين كانوا يسعون في خراب مساجد الله .. لقد أخذت أموالهم وطردوا من ديارهم .. هذا حدث .. وهذا معنى قوله تعالى الخزي في الدنيا .. أما في الآخرة فإن أعداء الله سيحاسبون حسابا عسيرا لتطاولهم على مساجد الله سبحانه، ولكن في الوقت نفسه فإن المؤمنين الذين سكتوا على هذا وتخاذلوا عن نصرة دين الله والدفاع عن بيوت الله .. سيكون لهم أيضا عذاب أليم. أنني أحذر كل مؤمن أن يتخاذل أو يضعف أمام أولئك الذين يحاولون أن يمنعوا ذكر الله في مساجده .. لأنه في هذه الحالة يكون مرتكبا لذنبهم نفسه وربما أكثر .. ولا يتركه الله يوم القيامة بل يسوقه إلي النار.


 

قديم 04-10-2011, 01:11 PM   #115
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 115

(ولله المشرق والمغرب فأين ما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم " 115")
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الذين يخربون مساجد الله ويهدمونها .. ويمنعون أن يذكر فيها اسمه والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أراد أن يذكرنا بأن تنفيذ هذا على مستوى تام وكامل عملية مستحيلة لأن الأرض كلها مساجد .. وتخريبها معناه أن تخرب الأرض كلها .. لأن الله تبارك وتعالى موجود في كل مكان فأينما كنتم فستجدون الله مقبلا عليكم بالتجليات. وقوله تعالى: "فثم وجه الله" .. أي هناك وجه الله .. وقوله تعالى: "والله واسع عليم" .. أي لا تضيقوا بمكان التقاءاتكم بربكم؛ لأن الله واسع موجود في كل مكان في هذا الكون وفي كل مكان خارج هذا الكون .. ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى: "ولله المشرق والمغرب" لا يعني تحديد جهة الشرق أو جهة الغرب فقط .. ولكنه يتعداها إلي كل الجهات شرقها وغربها .. شمالها وجنوبها والشمال الشرقي والجنوب الغربي وكل جهة تفكر فيها.
ولكن لماذا ذكرت الآية الشرق والغرب فقط؟ لأن بعد ذلك كل الجهات تحدد بشروق الشمس وغروبها .. فهناك شمال شرقي وجنوب شرقي وشمال غربي وجنوب غربي .. كما إن الشرق والغرب معروف بالفطرة عند الناس .. فلا أحد يجهل من أين تشرق الشمس ولا إلي أين تغرب. فأنت كل يوم ترى شروقا وترى غروبا. الله سبحانه وتعالى حين يقول: "ولله المشرق والمغرب" فليس معناها حصر الملكية لهاتين الجهتين ولكنه ما يعرف بالاختصاص بالتقديم .. كما تقول بالقلم كتبت وبالسيارة أتيت .. أي أن الكتابة هي خصوص القلم والإتيان خصوص السيارة .. وهذا ما يعرف بالاختصاص .. فهذا مختص بكذا وليس لغيره شيء فيه .. ولذلك فإن معنى: "ولله المشرق والمغرب" .. أن الملكية لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد .. وتغيير القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة ليس معناه أن الله تبارك وتعالى في بيت المقدس والاتجاه بعد ذلك إلي الكعبة ليس معناه أن الله جل جلاله في الكعبة.
إن توحيد القبلة ليس معناه أكثر من أن يكون للمسلمين اتجاه واحد في الصلاة .. وذلك دليل على وحدة الهدف .. فيجب أن تفرق بين اتجاه في الصلاة واتجاه في غير الصلاة .. اتجاه في الصلاة نكون جميعا متجهين إلي مكان محدد اختاره الله لنا لنتجه إليه في الصلاة .. والناس تصلي في جميع أنحاء العالم متجهة إلي الكعبة .. الكعبة مكانها واحد لا يتغير .. ولكن اتجاهنا إليها من بقاع الأرض هو الذي يتغير .. فواحد يتجه شمالا وواحد يتجه جنوبا وواحد يتجه شرقا وواحد يتجه غربا .. كل منا يتجه اتجاها مختلفا حسب البقعة التي يوجد عليها من الأرض .. ولكننا جميعا نتجه إلي الكعبة رغم اختلاف وجهاتنا إلا أننا نلتقي في اتجاهنا إلي مكان واحد.
الله جل جلاله يريدنا أن نعرف أننا إذا قلنا: "ولله المشرق" فلا نظن أن المشرق اتجاه واحد بل إن المشرق يختلف باختلاف المكان .. فكل مكان في الأرض له مشرق وله مغرب .. فإذا أشرقت الشمس في مكان فإنها في نفس الوقت تغرب في مكان آخر .. تشرق عندي وتغرب عند غيري .. وبعد دقيقة تشرق عند قوم وتغرب عند آخرين .. فإذا نظرت إلي الشرق وإلي الغرب بالنسبة لشروق الشمس الظاهري وغروبها .. تجد أن المشرق والمغرب لا ينتهيان من على سطح الأرض .. في كل دقيقة شروق وغروب. وقوله تعالى: "إن الله واسع عليم" .. أي يتسع لكل ملكه لا يشغله شيء عن شيء .. ولذلك عندما سئل الإمام على كرم الله وجهه .. كيف يحاسب الله الناس جميعا في وقت واحد؟ قال كما يرزقهم جميعا في وقت واحد .. إذن فالله لا يشغله شيء عن شيء .. ولا يحتاج في عمله إلي شيء .. إنما عمله "كن فيكون".


 

قديم 04-10-2011, 01:12 PM   #116
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 116

(وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون" 116")
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن له كل شيء في الكون لا يشغله شيء عن شيء .. أراد أن يرد على الذين حاولوا أن يجعلوا لله معينا في ملكه .. الذين قالوا اتخذ الله ولداً .. الله تبارك وتعالى رد عليهم أنه لماذا يتخذ ولدا وله ما في السماوات والأرض كل له قانتون .. وجاء الرد مركزا في ثلاث نقاط .. قوله تعالى: "سبحانه" أي تنزه وتعالى أن يكون له ولد .. وقوله تعالى: "له ما في السماوات والأرض" .. فإذا كان هذا ملكه وإذا كان الكون كله من خلقه وخاضعا له فما حاجته للولد؟
وقوله سبحانه: "كل له قانتون" .. أي كل من في السماوات والأرض عابدون لله جل جلاله مقرون بألوهيته. قضية إن لله سبحانه وتعالى ولداً جاءت في القرآن الكريم تسع عشرة مرة ومعها الرد عليها .. ولأنها قضية في قمة العقيدة فقد تكررت وتكرر الرد عليها مرة بعد أخرى .. وإذا نظرت للذين قالوا ذلك تجد أن هناك أقوالا متعددة .. هناك قول قاله المشركون .. واقرأ القرآن الكريم:

{ألا إنهم من إفكهم ليقولون "151" ولد الله وإنهم لكاذبون "152" أصطفى البنات على البنين "153"}
(سورة الصافات)


وقول اليهود كما يروي لنا القرآن:

{وقالت اليود عزيز ابن الله }
(من الآية 30 سورة التوبة)


وقول النصارى:

{وقالت النصارى المسيح ابن الله }
(من الآية 30 سورة التوبة)


ثم في قصة خلق عيسى عليه السلام من مريم بدون رجل .. الله سبحانه وتعالى يقول:

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا "88" لقد جئتم شيئا إدا "89" تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا "90" أن دعوا للرحمن ولدا "91" وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا "92" إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا "93"}
(سورة مريم)


والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا إدعاء خطير مستقبح مستنكر وممقوت .. لقد عالجت سورة مريم المسألة علاجا واسعا .. علاجا اشترك فيه انفعال كل أجناس الكون غير الإنسان .. انفعال السماوات والأرض والجبال وغيرها من خلق الله التي تلعن كل من قال ذلك .. بل وتكاد شعورا منها بفداحة الجريمة أن تنفطر السماء أي تسقط قطعا صغيرة .. وتنشق الأرض أي تتمزق .. وتخر الجبال أي تسقط كتراب .. كل هذا من هول ما قيل ومن كذب ما قيل .. لأن هذا الإدعاء افتراء على الله. ولقد جاءت كل هذه الآيات في سورة مريم التي أعطتنا معجزة خلق عيسى .. كما وردت القضية في عدة سور أخرى.
والسؤال هنا ما هي الشبهة التي جعلتهم يقولون ولد الله؟ ما الذي جعلهم يلجأون إلي هذا الافتراء؟ القرآن يقول عن عيسى بن مريم .. كلمة الله ألقاها إلي مريم .. نقول لهم كلنا كلمة "كن". لماذا فتنتم في عيسى ابن مريم هذه الفتنة؟ والله سبحانه وتعالى يشرح المسألة فيقول:

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "59"}
(سورة آل عمران)


قوله كمثل آدم لمجرد مجاراة الخصم .. ولكن المعجزة في آدم أقوى منها في عيسى عليه السلام .. أنتم فتنتم في عيسى لأن عنصر الأبوة ممتنع .. وآدم امتنع فيه عنصر الأبوة والأمومة .. إذن فالمعجزة أقوى .. وكان الأولى أن تفتنوا بآدم بدل أن تفتنوا بعيسى .. ومن العجيب أنكم لم تذكروا الفتنة في آدم وذكرتم الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم .. وكان من الواجب أن تنسبوا هذه القضية إلي آدم ولكنكم لم تفعلوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال له الله إن القضية ليست قضية إنكار ولكنها قضية كاذبة .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

{قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين "81" }
(سورة الزخرف)


 

قديم 04-10-2011, 01:12 PM   #117
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 117

(بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" 117")
بعد أن بين الله تبارك وتعالى .. أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله .. أراد الحق أن يلفتنا إلي بعض من قدراته .. فقال جل جلاله: "بديع السماوات والأرض" .. أي خلق السماوات والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق .. أي لم يكن هناك سماء أو أرض أو ملائكة أو جن أو إنسان .. ثم جاء الله سبحانه وتعالى وأوجد متشابها لهم في شكل أو حجم أو قدرة .. أي أنه سبحانه لم يلجأ إلي ما نسميه نحن بالقالب. إن الذي يصنع كوب الماء يصنع أولا قالبا يصب فيه خام الزجاج المنصهر .. فتخرج في النهاية أكواب متشابهة .. وكل صناعة لغير الله تتم على أساس صنع القالب أولا ثم بعد ذلك يبدأ الإنتاج .. ولذلك فإن التكلفة الحقيقية هي في إعداد القالب الجيد الذي يعطينا صورة لما نريد .. والذي يخبز رغيفا مثلا قد لا يستخدم قالبا ولكنه يقلد شيئا سبق .. فشكل الرغيف وخامته سبق أن تم وهو يقوم بتقليدهما في كل مرة .. ولكنه لا يستطيع أن يعطي التماثل في الميزان أو الشكل أو الاستدارة .. بل هناك اختلاف في التقليد ولا يجود كمال في الصناعة.
وحين خلق الله جل جلاله الخلق من آدم إلي أن تقوم الساعة .. جعل الخلق متشابهين في كل شيء .. في تكوين الجسم وفي شكله في الرأس والقدمين واليدين والعينين .. وغير ذلك من أعضاء الجسم .. تماثلا دقيقا في الشكل وفي الوظائف .. بحيث يؤدي كل عضو مهمته في الحياة .. ولكن هذا التماثل لم يتم على قالب وإنما تم بكلمة كن .. ورغم التشابه في الخلق فكل منا مختلف عن الآخر اختلافا يجعلك قادرا على تمييزه بالعلم والعين .. فبالعلم كل منا له بصمة إصبع وبصمة صوت يمكن أن يميزها خبراء التسجيل .. وبصمة رائحة قد لا نميزها نحن ولكن تميزها الكلاب المدربة .. فتشم الشيء ثم تسرع فتدلنا على صاحبه ولو كان بين ألف من البشر .. وبصمة شفرة تجعل الجسد يعرف بعضه بعضا .. فإن جئت بخلية من جسد آخر لفظها. وإن جئت بخلية من الجسد نفسه اتحد معها وعالج جراحها.
وإذا كان هذا بعض ما وصل إليه العلم .. فإن هناك الكثير مما قد نصل إليه ليؤكد لنا أنه رغم تشابه بلايين الأشخاص .. فإن لكل واحد ما يميزه وحده ولا يتكرر مع خلق الله كلهم .. وهذا هو الإعجاز في الخلق ودليل على طلاقة قدرة الله في كونه. والله سبحانه وتعالى يعطينا المعنى العام في القرآن الكريم بأن هذا من آياته وأنه لم يحدث مصادفة ولم يأت بطريق غير مخطط بل هو معد بقدرة الله سبحانه .. فيقول جل جلاله:

{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين"22"}
(سورة الروم)


هذا الاختلاف يمثل لنا طلاقة قدرة الله سبحانه في الخلق على غير مثال .. فكل مخلوق يختلف عمن قبله وعمن بعده وعمن حوله .. مع أنهم في الشكل العام متماثلون .. ولو أنك جمعت الناس كلهم منذ عهد آدم إلي يوم القيامة تجدهم في صورة واحدة .. وكل واحد منهم مختلف عن الآخر .. فلا يوجد بشران من خلق الله كل منهما طبق الأصل من الآخر .. هذه دقة الصنع وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: "بديع" .. والدقة تعطي الحكمة .. والإبراز في صور متعددة يعطي القدرة .. ولذلك بعد أن نموت وتتبعثر عناصرنا في التراب يجمعنا الله يوم القيامة .. والإعجاز في هذا الجمع هو أن كل إنسان سيبعث من عناصره نفسها وصورته نفسها وهيئته نفسها التي كان عليها في الدنيا. ولذلك قال الحق سبحانه:

{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ "4" }
(سورة ق)


إذن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته في الإيجاد قد خلقنا .. وبطلاقة قدرته في إعادة الخلق يحيينا بعد الموت .. بشكلنا ولحمنا وصفاتنا وكل ذرة فينا .. هل هناك دقة بعد ذلك؟. لو أننا أتينا بأدق الصناع وأمهرهم وقلنا له: اصنع لنا شيئا تجيده. فلما صنعه قلنا له: اصنع مثله. إنه لا يمكن أن يصنع نموذجا مثله بالمواصفات نفسها؛ لأنه يفتقد المقاييس الدقيقة التي تمده بالمواصفات نفسها التي صنعها. إنه يستطيع أن يعطينا نموذجا متشابها ولكن ليس مثل ما صنع تماما. لكن الله سبحانه وتعالى يتوفى خلقه وساعة القيامة أو ساعة بعثهم يعيدهم بمكوناتهم نفسها التي كانوا عليها دون زيادة أو نقص. وذلك لأنه الله جل جلاله لا يخلق وفق قوالب معينة، وإنما يقول للشيء: كن فيكون.
تقول الآية الكريمة: "بديع السماوات والأرض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون". "كن" وردت كثيرا في القرآن الكريم .. وفي اللغة شيء يسمى المشترك اللفظ يكون واحدا ومعانيه تختلف حسب السياق .. فمثلا كلمة قضى لها معاني متعددة ولها معنى يجمع كل معانيها .. مرة يأتي بها الحق بمعنى فرغ أو انتهى .. في قوله تعالى:

{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا }
(من الآية 200 سورة البقرة)


ومعناها إذا انتهيتم من مناسك الحج .. ومرة يقول سبحانه:

{فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا }
(من الآية 72 سورة طه)


والمعنى افعل ما تريد .. وفي آية أخرى يقول الله تعالى:

{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }
(من الآية 36 سورة الأحزاب)


والمعنى أنه إذا قال الله شيئا لا يترك للمؤمنين حق الاختيار .. ومرة يصور الله جل جلاله الكفار في الآخرة وهم في النار يريدون أن يستريحوا من العذاب بالموت: واقرأ قوله سبحانه:

{ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون "77" }
(سورة الزخرف)


ليقض علينا هنا معناها يميتنا .. ومعنى آخر في قوله تعالى:

{وقال الشيطان لما قضى الأمر }
(من الآية 22 سورة إبراهيم)


أي لما انتهى الأمر ووقع الجزاء .. وفي موقع آخر قوله سبحانه:

{فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله}
(من الآية 29 سورة القصص)


قضى الأجل هنا بمعنى أتم الأجل وفي قوله تعالى:

{وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون }
(من الآية 54 سورة يونس)


أي حكم وفصل بينهم .. وقوله جل جلاله:

{وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين }
(من الآية 4 سورة الإسراء)


بمعنى أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم .. إذن "قضى" لها معان متعددة يحددها السياق .. ولكن هناك معنى تلتقي فيه كل المعاني .. وهو قضى أي حكم وهذا هو المعنى الأم. إذن معنى قوله تعالى: "إذا قضى أمرا" .. أي إذا حكم بحكم فإنه يكون على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق: "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن" .. معنى يقول له أن الأمر موجود عنده .. موجود في علمه .. ولكنه لم يصل إلي علمنا .. أي أنه ليس أمرا جديدا .. لأنه مادام الله سبحانه وتعالى قال: "يقول له" .. كأنه جل جلاله يخاطب موجودا .. ولكن هذا الموجود ليس في علمنا ولا نعلم عنه شيئا .. وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى .. ولذلك قيل أن لله أمرواً يبديها ولا يبتديها .. إنها موجودة عنده لأن الأقلام رفعت، والصحف جفت .. ولكنه يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها.


 

قديم 04-10-2011, 01:12 PM   #118
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 118

(وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون " 118")
الحق سبحانه وتعالى حين قال: "الذين لا يعلمون" .. أي لا يعلمون عن كتاب الله شيئا لأنهم كفار .. وهؤلاء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله .. ومعنى أن يكلمهم الله أن يسمعوا كلاما من الله سبحانه .. كما سمع موسى كلام الله. وماذا كانوا يريدون من كلام الله تبارك وتعالى .. أكانوا يريدون أن يقول لهم الله إنه أرسل محمداً رسولا ليبلغهم بمنهج السماء .. وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وعلى رأسها القرآن الكريم ـ لم تكن كافية لإقناعهم .. مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي .. سألوه عن أشياء حدثت فأوحى الله بها إليه بالتفصيل .. جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية .. وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى .. والله سبحانه وتعالى قد أبلغنا أنه لا يمكن لطبيعة البشر أن تتلقى عن الله مباشرة .. واقرأ قوله سبحانه:

{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء }
(من الآية 51 سورة الشورى)


إذن فالبشر حتى المصطفى من الله والمؤهل للتلقي عن الله .. لا يكلمه الله إلا وحيا أو إلهام خاطر أو من وراء حجاب كما كلم موسى .. أو يرسل رسولا مبلغا للناس لمنهج الله .. أما الاتصال المباشر فهو أمر تمنعه بشرية الخلق. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: "أو تأتينا آية" .. والآيات التي يطلبها الكفار ويأتي بها الله سبحانه وتعالى ويحققها لهم .. لا يؤمنون بها بل يزدادون كفرا وعنادا .. والله جل جلاله يقول:

{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}
(من الآية 59 سورة الإسراء)


إذن فالآيات التي يطلبها الكفار ليؤمنوا لا تجعلهم يؤمنون .. ولكن يزدادون كفرا حتى ولو علموا يقينا أن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى كما حدث لآل فرعون .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

{فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين "13" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "14"}
(سورة النمل)


وهكذا فإن طلبها أن يكلمهم الله أو تأتيهم آية كان من باب العناد والكفر والحق سبحانه يقول: "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" .. فبنو إسرائيل قالوا لموسى أرنا الله جهرة .. الذين لا يعلمون قالوا لولا يكلمنا الله .. ولكن الذين قالوا أرنا الله جهرة كانوا يعلمون لأنهم كانوا يؤمنون بالتوراة .. فتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون .. لذلك قال الله تبارك وتعالى: "تشابهت قلوبهم" .. أي قلوب أولئك الذين كانوا خاضعين للمنهج والذين لا يخضعون لمنهج قد تشابهت بمنطق واحد. ولو أن الذين لا يعلمون قالوا ولم يقل الذين يعلمون لهان الأمر .. وقلنا جهلهم هو الذي أوحى إليهم بما قالوا .. ولكن ما عذر الذين علموا وعندهم كتاب أن يقولوا أرنا الله جهرة .. إذن فهناك شيء مشترك بينهم تشابهت قلوبهم في الهوى .. إن مصدر كل حركة سلوكية أو حركة جارحة إنما هو القلب الذي تصدر عنه دوافع الحركة .. ومادام القلب غير خالص لله فيستوى الذي يعلم والذي لا يعلم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" .. ما هو اليقين؟ هو استقرار القضية في القلب استقرارا لا يحتمل شكا ولا زلزلة .. ولا يمكن أن تخرج القضية مرة أخرى إلي العقل .. لتناقش من جديد لأنه أصبح يقينا .. واليقين يأتي من إخبار من تثق به وتصبح أخباره يقينا .. فإذا قال الله قال اليقين .. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه حق .. ولذلك من مصداقية الإيمان أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه .. عندما قيل له إن صاحبك يقول إنه صعد به إلي السماء السابعة وذهب إلي بيت المقدس في ليلة واحدة .. قال إن كان قد قال فقد صدق. إن اليقين عنده نشأ من إخبار من يثق فيه وهذا نسميه علم يقين .. وقد يرتقي الأمر ليصير عين يقين .. عندما ترى الشيء بعينك بعد أن حدثت عن رؤية غيرك له .. ثم تدخل في حقيقة الشيء فيصبح حق يقين .. إذن اليقين علم إذا جاء عن إخبار من تثق به .. وعين يقين إذا كان الأمر قد شوهد مشاهدة العين .. وحق يقين هو أن تدخل في حقيقة الشيء .. والله سبحانه وتعالى يشرح هذا في قوله تعالى:

{ألهاكم التكاثر "1" حتى زرتم المقابر "2" كلا سوف تعلمون "3" ثم كلا سوف تعلمون "4" كلا لو تعلمون علم اليقين "5" لترون الجحيم "6" }
(سورة التكاثر)


هذه هي المرحلة الأولى أن يأتينا علم اليقين من الله سبحانه وتعالى .. ثم تأتي المرحلة الثانية في قوله تبارك وتعالى:

{ثم لترونها عين اليقين "7"}
(سورة التكاثر)


أي أنتم ستشاهدون جهنم بأعينكم يوم القيامة .. هذا علم يقين وعين يقين .. يأتي بعد ذلك حق اليقين في قوله تعالى:

{وأما إن كان من المكذبين الضالين "92" فنزل من حميم "93" وتصلية جحيم "94" إن هذا لهو حق اليقين "95" }
(سورة الواقعة)


والمؤمن عافاه الله من أن يعاين النار كحق يقين .. إنه سيراها وهو يمر على الصراط .. ولكن الكافر هو الذي سيصلاها حقيقة يقين .. ولقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم ما يوافق قول غير المؤمنين .. فاليهود قالوا لموسى: "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" .. والمسيحيون قالوا لعيسى: "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" قال: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" .. وهكذا شجع المؤمنون بالكتاب غير المؤمنين بأن يطلبوا رؤية الله ويطلبوا المعجزات المادية.


 

قديم 04-10-2011, 01:13 PM   #119
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 119

(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " 119")
هنا لابد أن نلتفت إلي أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم .. ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت .. فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة .. فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب .. تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار .. والله تبارك وتعالى .. فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلي كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول "إنا":

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "9" }
(سورة الحج)


ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد .. مثل قوله سبحانه:

{إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني وأقم الصلاة لذكري "14" }
(سورة طه)


ولا يقول فاعبدنا .. إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة .. وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد .. وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها .. ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها .. وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله. إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلي هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله .. لأنك قد تقدر ولا تعلم .. وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب.
قوله تعالى: "إنا أرسلناك بالحق" يعني بعثناك بالحق رسولا .. والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتناقض .. فإذا رأيت حدثا أمامك ثم طلب منك أن تحكي ما رأيت رويت ما حدث .. فإذا طلب منك بعد فترة أن ترويه مرة أخرى فإنك ترويه بنفس التفاصيل .. أما إذا كنت تكذب فستتناقض في أقوالك .. ولذلك قيل إن كنت كذوبا فكن ذكورا. إن الحق لا يتناقض ولا يتغير .. ومادام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل والإنذار هو الإخبار بشيء يسوؤك زمنه قادم ربما استطعت أن تتلافاه .. بشير بماذا؟ ونذير بماذا؟ يبشر من آمن بنعيم الجنة وينذر الكافر بعذاب النار .. والبشرى والإنذار يقتضيان منهجا يبلغ .. من آمن به كان بشارة له. ومن لا يؤمن كان إنذارا له. ثم يقول الحق جل جلاله: "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" .. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مسئولا عن الذين سيلقون بأنفسهم في النار والعذاب. إنه ليس مسئولا عن هداهم وإنما عليه البلاغ .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً "6" }
(سورة الكهف)


ويقول جل جلاله:

{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين "3" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "4" }
(سورة الشعراء)


فالله سبحانه وتعالى لو أرادنا أن نؤمن قسرا وقهرا .. ما استطاع واحد من الخلق أن يكفر .. ولكنه تبارك وتعالى يريد أن نأتيه بقلوب تحبه وليس بقلوب مقهورة على الإيمان .. إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختارين أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا .. وليس لرسول أن يرغم الناس على الإيمان بالقهر .. لأن الله لو أراد لقهر كل خلقه. أما أصحاب الجحيم فهم أهل النار. والجحيم مأخوذة من الجموح .. وجمحت النار يعني اضطربت، وعندما ترى النار متأججة يقال جمحت النار .. أي أصبح لهيبها مضاعفا بحيث يلتهم كل ما يصل إليها فلا تخمد أبدا. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم .. أنه لا يجب أن ينشغل قلبه بالذين كفروا لأنه قد أنذرهم .. وهذا ما عليه، وهذه مهمته التي كلفه الله بها.


 

قديم 04-10-2011, 06:56 PM   #120
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 120

(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله منولي ولا نصير " 120")
كان اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل لؤم وكيد فيقولون هادنا، أي قل لنا ما في كتابنا حتى ننظر إذا كنا نتبعك أم لا .. يريد الله تبارك وتعالى أن يقطع على اليهود سبيل الكيد والمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم .. بأنه لا اليهود ولا النصارى سيتبعون ملتك .. وإنما هم يريدون أن تتبع أنت ملتهم .. أنت تريد أن يكونوا معك وهم يطمعون أن تكون معهم .. فقال الله سبحانه: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" .. نلاحظ هنا تكرار النفي وذلك حتى نفهم أن رضا اليهود غير رضا النصارى .. ولو قال الحق تبارك وتعالى، ولن ترضى عنك اليهود والنصارى بدون لا .. لكان معنى ذلك أنهم مجتمعون على رضا واحد أو متفقون .. ولكنهم مختلفون بدليل أن الله تعالى قال:

{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }
(من الآية 113 سورة البقرة)


إذن فلا يصح أن يقال فلن ترضى عنك اليهود والنصارى .. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لن ترضى عنك اليهود ولن ترضى عنك النصارى .. وإنك لو صادفت رضا اليهود فلن ترضى عنك النصارى .. وإن صادفت رضا النصارى فلن ترضى عنك اليهود .. ثم يقول الحق سبحانه: "حتى تتبع ملتهم" .. والملة هي الدين وسميت بالملة لأنك تميل إليها حتى ولو كانت باطلا .. والله سبحانه وتعالى يقول:

{ولا أنتم عابدون ما أعبد "3" ولا أنا عابد ما عبدتم "4" ولا أنتم عابدون ما أعبد "5" لكم دينكم ولي دين "6" }
(سورة الكافرون)


فجعل لهم دينا وهم كافرون ومشركون .. ولكن ما الذي يعصمنا من أن نتبع ملة اليهود أو ملة النصارى .. الحق جل جلاله يقول:

{قل إن الهدى هدى الله }
(من الآية 73 سورة آل عمران)


فاليهود حرفوا في ملتهم والنصارى حرفوا فيها .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه هدى الله .. والهدى هو ما يوصلك إلي الغاية من أقصر طريق .. أو هو الطريق المستقيم باعتباره أقصر الطرق إلي الغاية .. وهدى الله طريق واحد، أما هدى البشر فكل واحد له هدى ينبع من هواه. ومن هنا فإنها طرق متشبعة ومتعددة توصلك إلي الضلال .. ولكن الهدى الذي يوصل للحق هو هدى واحد .. هدى الله عز وجل. وقوله تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم" إشارة من الله سبحانه وتعالى إلي أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية .. والأهواء جمع هوى .. والهوى هو ما تريده النفس باطلا بعيدا عن الحق .. لذلك يقول الله جل جلاله: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" ..
والله تبارك وتعالى يقول لرسوله لو اتبعت الطريق المعوج المليء بالشهوات بغير حق .. سواء كان طريق اليهود أو طريق النصارى بعدما جاءك من الله من الهدى فليس لك من الله من ولي يتولى أمرك ويحفظك ولا نصير ينصرك. وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن نقل معه وقفة لنتأمل كيف يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه .. فالله حين يوجه هذا الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام .. فالمراد به أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده .. وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلي اليهود والنصارى .. أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم.
والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم يقينا أن ما لم يقبله من رسوله عليه الصلاة والسلام .. لا يمكن أن يقبله من أحد من أمته مهما علا شأنه .. وذلك حتى لا يأتي بعد رسول الله من يدعي العلم .. ويقول نتبع ملة اليهود أو النصارى لنجذبهم إلينا .. نقول له لا ما لم يقبله الله من حبيبه ورسوله لا يقبله من أحد. إن ضرب المثل هنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقصود به أن اتباع ملة اليهود أو النصارى مرفوض تماما تحت أي ظرف من الظروف، لقد ضرب الله سبحانه المثل برسوله حتى يقطع على المغرضين أي طريق للعبث بهذا الدين بحجة التقارب مع اليهود والنصارى.


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:21 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا