المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بن مسلم
اخواني و اخواتي اعضاء و زوار المنتدى الكرام .
كنت قد كتبت لكم عن تجربتي مع الهلع في موضوعي الاول هلع و جهل و صحراء , و قرأت ردودكم و بعض مواضيعكم , والحقيقة اني ادرك ان المواضيع النفسية و المشاعر المختلفة المتعلقة بها تهم كل اصحاب التجارب النفسية بمختلف انواعها , و ادرك ايضا ان من يعاني من مثل هذه الامور يهتم جدا بادق التفاصيل , لانه يعيش حياته بادق التفاصيل كذلك , فقبل هذه التجربة كنت اتعامل مع الاعوام و الاشهر و الايام و لم تكن تهمني حتى الساعات , فالوقت متوفر بكثرة .
كنت اتعامل مع المسافات الطويلة و الاميال و الكيلومترات , فالكون واسع و مترامي الاطراف .
و لكن بعد هذه التجربة و بالتحديد في اوج قوتها و شدة ضعفي , انكمش الكون الواسع بالنسبة لي , كانت حدوده الخارجية لا تتجاوز جلدي , و انقرضت كذلك الاعوام و الاشهر و الساعات و حتى الدقائق , و اصبحت اتعامل مع نصف الثانية فما دون و هو الزمن الذي تستغرقه كل نبضة من نبضات قلبي المتسارعة اثناء النوبات , صحرائي الحبيبة الكبيرة اصبحت صغيرة جدا , مرتعشة , مبللة بالعرق البارد الذي ينتج عن النوبة , يقطع عقلي المسافة من رأسي الى اخمص قدمي متنقلا بين اعضاء مضطربة
اعضاء فقدت تناسقها
اطراف مرتجفة
عيون زائغة
حلق جاف شبه مغلق
قلب ينفجر
صدر منقبض
رئتان تبحثان عن فراغ يحتله الحجاب الحاجز الذي تخشب
والتنفس و ما ادراك ما التنفس
يصطدم الشهيق بالزفير في الحنجرة بالضبط
اوكسجين يحاول الدخول و اوكسجين يندفع خارجا
قد يقول قائل ان الذي يخرج يجب ان يكون ثاني اكسيد الكربون , و لكني اؤكد لكم انه اكسجين لانه لم يصل الى عمق الرئتين ليستبدل بثاني اكسيد الكربون .
اعضائي تتسابق الى الانتحار في نفس الوقت
يعجز عقلي ان يسيطر على اي شيء و لكنه قبل ان يعلن الاستسلام يعطي الامر الاخير لجسدي وهو الاستلقاء على الارض .
و تبقى عيناي تنظران نحو الباب , خشية ان يدخل احد والدي "رحمهما الله " و يرياني على هذا الحال .
هكذا كنت و هكذا الكثير منكم و هذه هي التفاصيل التي تهمنا و هذه هي التجارب التي يجب ان نتبادلها
لا حياء و لا عار و لا حرام في ذلك
قد اقول لشخص عادي : اصابتني نوبة هلع
فيقول لي سلامتك
ولكني لا استطيع ان اقول اصابتني نوبة هلع لمن يعانون من النوبة , انهم بحاجة الى التفاصيل الدقيقة لانهم مثلي يعيشون في هذه التفاصيل
يعيشون في اجسادهم و بين نبضات قلوبهم .... على الاقل خلال النوبة
اعود بكم الى موضوعي الاصلي و هو غزوة الخميلة الثانية
كانت النوبة الاولى قد اصابتني قبل اسبوع تقريبا من شهر رمضان المبارك , وتكررت يوميا و احيانا عدة مرات في اليوم , و من رحمة الله انها لم تكن تصيبني في النهار اثناء الصيام و لا ادري لماذا , و لكن موعدي معها كان بين الفطور و السحور .
و مع مرور ايام الشهر الفضيل تعودت عليها و على اثارها
و كان من عادتي – ولا يزال - ان لا اذهب في رحلات الى الصحراء خلال رمضان , و كان اصدقائي يعرفون ذلك , و خلال الاربعين يوما تقريبا من ماقبل رمضان الى ما بعد العيد كانت خبرتي في النوبة تزداد و تعاملي معها يتحسن و لم يشعر احد على الاطلاق بما يجري
اقول هذا لاني اعرف ان هناك رحلة بعد العيد مع الاصدقاء , و لم اكن متأكدا مما سيحدث خلال هذه الرحلة
النوبة مؤكدة بحكم العادة , و لكن ما يقلقني امران :
الاول ردة فعلي الشخصية عند وصولي لمكان النوبة الاولى و الذي اسميه غزوة الخميلة الاولى
و الثاني مدي قدرتي على اخفاء الاعراض عن اصدقائي و خوفي من انكشاف امري وهو تفكير اعترف لكم الان انه خاطيء , لانني الان بينكم و اخبركم بادق التفاصيل دون خجل , و لكني في ذلك الوقت كنت اخشى ان تصيبني النوبة فيشعرون بها فأكون سببا في تعاستهم في رحلة يجب ان يكونوا فيها في قمة السعادة بعد الانقطاع الطويل عن الرحلات .
قدت السيارة كالمعتاد , و كانت غايتنا الذهاب الى الخميلة
( و لمن لا يعرف الخميلة فهي مساحة من الرمال الناعمة و بها اشجار الغضا و الرتم متقاربة )
كنت شخصيا ارغب في الذهاب الى هناك ، كنت ارغب في رؤية المكان الذي غزتني فيه النوبة اول مرة
و هزمتني شر هزيمة
كنت امني نفسي بالانتصار عليها في هذه المرة , لان هزيمتي هذه المرة تعني ان اكره المكان الذي احبه لاني هزمت فيه مرتين , و ربما اكره الصحراء كلها , و عندها اين سأذهب ؟؟
كنت متسلحا بثقتي بالله عز و جل اولا , ثم اربعون يوما من المقاومة الشديدة , ثم بالاصدقاء الذين معي و لكن في حالة ان تزيد الامور عن حدها و تخرج عن سيطرتي , و انا هنا لا اعني السيطرة التامة فهذه جاءت متأخرة جدا , و لكن ما اعنيه هو ان لا اهرب و ان لا اصاب بالاغماء وان لا يشعر الاخرون بشيء .
كانت هذه هي اهدافي و سقف طموحاتي .
نكات و ضحكات و سعادة تغمر وجوه الاصدقاء , و تغمر وجهي ايضا
وجهي الذي يستطيعون رؤيته
و ليس وجهي المختفي في اعماقي .. ينتظر النوبة في اي وقت .
وجهي المتجهم المتوجه الى ساحة حرب , اخطط لمعركة مع عدو لا اعرفه
كلما استغرقت في التفكير فيما سيحدث , انتبه فجأة و اتشبث بمقود السيارة و اعتدل في جلستي ثم التفت الى اصدقائي مبتسما ان فاتتني النكتة او ضاحكا ان سمعتها من بدايتها ..
ها قد وصلنا
اوقفت السيارة في نفس مكانها السابق و نظرت الى المكان الذي كنت استلقي فيه يوم الغزوة الاولى
الطبيعة قامت بدورها في محو الاثار , باستثناء مكان النار
و لكني رأيت كل شيء و كأنه حدث الان .
رأيت رجلا يسكب الماء على رأسه
رأيت رجلا يرتجف بلا سبب
رأيته ينطوي على نفسه , كأنه طفل في رحم امه
رأيت الرجل يحبو كالطفل على يديه و قدميه متوجها الى السيارة
رأيته يتوضأ
و قبل ان تصل يده المبلولة بماء الوضوء الى مقبض باب السيارة من الخارج
كانت يدي اسرع الى المقبض من الداخل
فتحت الباب و نزلت
التففت الى حوض السيارة و سحبت فراشي المطوي و فردته في مكاني القديم
انتبهت على ضحكات الاصدقاء , اتريد ان تنام الان ؟؟
نحن حتى الان لم نصلي العصر .
شاركتهم الضحك و لم اجب
صلينا العصر و اشعلنا النار , ابريق الشاي و القهوة العريبة جاهزان
احدهم يقطع اللحم
و اخر يجمع الحطب و الثالث فاجأني بوضع يده على كتفي قائلا : نريد كبسة من يديك .
فارتعشت يداي قليلا .
ابشر بأحلى كبسة , هكذا اجبته , و بدأت باجراءات الطبخ .
و صدقوني لم يفارقني شبحي الزاحف على يديه و رجليه و لا للحظة واحدة , و لكني كنت كلما احتاج الى الماء من الصنبور المثبت في جانب السيارة من الاسفل كنت اتعمد ان تدوس خطاي على اثار زحفي التي كنت استطيع رؤيتها واضحة رغم ان غيري لا يراها , و واقعيا هي لم تكن موجودة الا في ذاكرتي فقط .
بعد صلاة المغرب , كان علي ان اضيف الرز الى القدر كخطوة اخيرة لاتمام الطبخة
فجأة انتابني نفس الشعور الذي تبدأ به النوبة هجومها , رجفة و خفقان في القلب , تشتد رويدا رويدا , و كأنها تتفنن في تعذيبي , كأنها تقول لي استسلم الان لان القادم اعظم , اشتدت الاعراض و كان تركيزي في هذه اللحظة منقسما بين المقاومة و مراقبة الاصدقاء كي لا يلاحظوا شيئا , زحفت الى الوراء قليلا لابتعد عن القدر فيما لو فقدت الوعي , و صلت الاعراض الى ذروتها , نظرت الى شمالي حيث كان يجلس اقرب الاصدقاء , كنت في هذه اللحظة ارغب في النداء عليه ليسعفني , ليخرجني مما انا فيه , ولكني تمالكت نفسي في اللحظة الاخيرة , كنت اتصور اني لو ناديت عليه لانتصرت على النوبة , و لكني صبرت و عللت نفسي بان هذه النوبة اخف من سابقتها و اني على الاقل لن اكون طعاما للوحوش كما كنت افكر في المرة الاولى ,
استنزفتني النوبة و شعرت بالتعب الشديد و الارهاق و لكن كان الجزء الصعب قد ولى , و شعرت براحة نفسية و سعادة غريبة
اتلمس نفسي , هل انتهت النوبة حقيقة ام لا
اصحيح انه لم يتبقى منها سوى تعب العضلات ؟
انظر في وجوه الاصدقاء فلا ارى عليها اي علامة توحي بانهم قد شعروا بما يحدث لي
يا الله ما اجمل هذا الشعور .
شعور المنتصر .
صلينا العشاء و تناولنا طعام العشاء , اكلت ضعف المعتاد تقريبا
كنت مستعدا للنوبة الثانية خلال الليل
انتظرتها و لكنها لم تأت هذه الليلة بل ايقضتني في الصباح الباكر
بدأت كما تبدأ دائما و انتهت كما تنتهي دائما
و فور انتهائها اعتدلت من فراشي و اشعلت النار دون ان افكر فيها
امسكت بابريق الشاي و القهوة و مشيت الى الماء
مشيا ...... و ليس زحفا
|